الدعوة إلى الله وظيفة الرسل عليهم السلام وسيد الدعاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول له ربه في كتابه العزيز: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ) (المائدة: 67)، ويقول عنه وعن دعوته: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ) (سبأ: 28).
ولا شك أن واجب الدعوة إلى الله يمتد إلى كل أتباع الرسل، ونحن المسلمين أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأتباع كل المرسلين، مطالبون بواجب الدعوة إلى الله تعالى والعمل على نشر هذا الدين والتذكير بفضائله وحث الناس للتمسك بقيمه والالتزام بتعاليمه، قال تعالى: (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ) (آل عمران: 110).
وهذا الواجب الدعوي يشمل كل أفراد الأمة وإن كان بدرجات متفاوتة كل حسب علمه وظروفه وميدانه وطاقته.
ولكن واجب القيام بالدعوة لا ينفك عن المسلم ولو في أدنى مستوى له بالحض على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتربية على تعاليم الإسلام وفضائله داخل أسرته وفي محيطه الاجتماعي.
والدعوة إلى الله يجب أن تكون على بينة وبصيرة وعلى علم ودراية، وإلا فإن النتائج قد تكون عكسية، وقد يفسد الإنسان أحياناً من حيث يريد الإصلاح، ويجلب شروراً من حيث يبغي الخير.
وفي هذه الفسحة سأتحدث عن الدعوة إلى الله على بصيرة من خلال الآية الكريمة: (قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ) (يوسف: 108).
في هذه الآية يأمر الله تعالى نبيه أن يقول لأتباعه وللناس أجمعين: إن طريقي في هذه الدنيا هو الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، وهذا دربي وعليه أسير وكل من اتبعني من المؤمنين وما أنا من المشركين.
هذا الملخص العام لهذه الآية الكريمة يجعلنا نسأل: ما البصيرة؟ وما علاقتها بصحة وسلامة الدعوة؟ وما أسسها؟ وما أهم تجلياتها؟
وننطلق على بركة الله في جولتنا في رحاب هذه الآية لنجيب عن هذه الأسئلة.
مفهوم البصيرة: لو بحثنا عن معاني البصيرة في معاجم اللغة نجدها تدور حول المعاني الأتية: قوة الإدراك والفطنة، العلم والخبرة، وأولو الأبصار أي أصحاب العقول واستبصر الأمر استبانه واستجلاه، واستبصر الشيء تأمله.
وفي القرآن الكريم ورد لفظ البصيرة مفرداً وجمعاً وبمشتقات مختلفة في عديد الآيات، ويدور معنى البصيرة على الرؤية القلبية أي الإبصار الباطني وليس مجرد رؤية العين.
فالبصيرة من البصر، ومادة بصر في اللغة مدارها على العلم بالشيء، يقال: فلان بصير بالشيء؛ أي عليم به.
وللبصيرة معان متعددة تلتقي في كونها مرتبطة بالبصر الداخلي أو رؤية الأشياء المعنوية والحقائق وراء المظاهر.
من معانيها البرهان والفطنة والحجة والمعرفة، وتجمع على بصائر، قال تعالى: (قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ) (الأنعام: 104).
وعن معنى البصيرة يقول الكفوي في كتابه «معجم الكليات»: البصيرة قوة في القلب تدرك بها المعقولات، وقوة القلب المدركة بصيرة، فالبصيرة تعتمد على البراهين النقلية من الكتاب والسُّنة، والعقلية التي تعتمد على العقل والفكر وعلى الحجج الواضحة والبيان البليغ والدليل الواضح.
الأسس التي تقوم عليها البصيرة
للبصيرة أسس تقوم عليها يمكن أن تلخيصها فيما يلي:
1- اتباع المنهج الصحيح الذي هو الإسلام الذي يقوم على التوحيد الذي دعا إليه الرسل عليهم السلام، وفي خاتمة هذه الآية التي نتحدث عنها يقول الله تعالى على لسان نبييه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ).
2- اليقين بهذا الدين الذي يدعو الداعي إليه بحيث لا يدخله ريب فيه، بل يجزم بأنه الحق المبين، قال تعالى: (قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۗ) (البقرة: 120).
3- العلم قبل الدعوة، وحركة الدعوة يجب أن تتصل وترتكز على الفهم الدقيق الذي يقوم على العلم ويسبق العمل، هذا العلم الذي ينظم حركة المسلم في دعوته إلى الله، قال تعالى: (فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ) (محمد: 19)، فالعلم يزود المسلم بشحنة عالية من الأدلة والحجج ويعطيه قدرة على فهم النصوص واستنباط الأحكام وتنزيلها على واقع الحياة ويبعده عن التطبيق السيئ والانحراف في الفهم والغلو في المسلك الذي يؤدي إلى النفور من الداعي والدعوة، ويأتي بنتائج وخيمة على الرسالة، فتروج سوق الشبهات من المغرضين، وترفع أصوات الناهقين بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير.
4- التزكية، أساس مهم للبصيرة، فالبصيرة نور والنور مأوى القلوب النقية والنفس المطمئنة التي تزكت فترقت وصدق الله القائل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس).
تجليات البصيرة
للبصيرة تجلياتها التي لا تخفى على أولي الألباب منها:
1- الوعي: صاحب البصيرة عنده بُعد نظر يبصر المشهد بكافة أبعاده، ويعي المالات، ويربط النتائج بالمقدمات.
2- الحكمة: الداعي إلى الله على بصيرة يسير في طريقه بوعي، ويمضي في دربه بحكمة تجعله يضع الأمور في نصابها، فيزنها بالقسطاس المستقيم دون ميل أو حيف، محققاً قوله تعالى: (ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ) (النحل: 125)، وصدق الله القائل: (يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ) (البقرة: 269).
3- الخلق الرفيع: الدعوة إلى الله على بصيرة لا يمكن أن تكتمل ويشع نورها إلا بالخلق القويم الذي هو انعكاس للإيمان العميق والاتصال الوثيق بالله تعالى، وصاحبه قريب من الناس ومن رب الناس ودعوته تجد القبول والنجاح ولو بعد حين.
بعد هذه الجولة في رحاب البصيرة وعلاقتها بالدعوة إلى الله في صحبة آية كريمة، جاءت في خواتيم سورة «يوسف» عليه السلام، فكانت مسك الختام لتلك القصة الجليلة التي سماها الله تعالى «أحسن القصص»، وفي موقع الآية وزمن نزولها من العبر ما لا يخفى عن أولي الألباب، حيث بينت بجلاء أهمية البصيرة؛ فهماً وإدراكاً، وعياً وسلوكاً، لكل داع يريد أن يسير على المنهج القويم لسيد المرسلين وإمام المتقين.