كان عمرها 18 عاماً حين أنهت مرحلة الثانوية العامة، فتاة جميلة ملتزمة مقبلة على الحياة بطاعة لربها وحب للحياة التي وهبها الله إياها، كانت مرغوبة من الكثيرين، ولكثرة المتقدمين، اضطر أهلها لقبول أحد الطيبين لكف الأعين عنها، وحمايتها من أي فتنة محتملة، خاصة أنها سوف تكمل تعليمها الجامعي.
عام بعد عام صار لديها ثلاثة من الأبناء، يكبرون وتكبر احتياجاتهم يوماً بعد يوم، اضطر الزوج للسفر ليكفي حاجة أسرته النامية، وتفترق الأسرة للمرة الأولى منذ نشأتها، تحمل هي مسؤولية التربية مضاعفة مع غياب الأب المربي، ويتحمل هو هم فراقهم وهو الزوج المحب والأب الحاني، يتملكه المرض، ويصيبه الوهن، ثم يداهم الموت الأسرة المتحابة، ليعود الزوج في صندوق، بينما لم تبلغ هي الثلاثين من عمرها بعد.
كانت زهرة يانعة تفوح برائحة ودها على كل من حولها، وفجأة وجدت نفسها بلا راعٍ، وبلا معين، وبلا خبرة تقود بها حياتها وحياة من تعولهم، تضطر للمرة الأولى للنزول من مملكتها وحصنها لميدان العمل لتطعم صغارها وتقوم على تربيتهم في آن واحد، تزفها التحذيرات من جميع من حولها، هي الآن بغير رجل، فكل خطوة محسوبة عليها هي في مجتمع ذكوري لا يرحم، النظرة محسوبة عليكِ أنتِ، الكلمة أنتِ من تدفعين ثمنها، أبناؤك مسؤوليتك الكاملة.
تنطلق في الحياة وحيدة في سن مبكرة بمسؤولية كبيرة، وأحلام موؤودة، وشباب يجب دفنه، وإنسانية تنتزع من كل من حولها انتزاعاً، حين تعجز لا تجد يداً تمتد إليها بمساعدة، وإذا فكرت في الزواج بمن يحمل معها ويعينها، تتوجه إليها مئات الخناجر متهمة إياها بخيانة زوجها الذي مات، وخطف الرجال، وسوء الصفات والأخلاق، فأي مجتمعات مسلمة تلك؟! وأي إنسانية في بلادنا قد غابت؟!
حال الأرملة في الإسلام
من صور ومظاهر رحمة الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم نظرته للمرأة عامة، وللأرامل بوجه خاص، فالنبي صلى الله عليه وسلم يوصي أمته وهو بين أصحابه بالنساء ويقول: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرا» (رواه مسلم).
وفي حجة الوداع بينما يلقي على أمته خطبته يعيد توصيته بالنساء، وخص من بينهن الأرامل وذوات الحاجات، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار» (رواه البخاري).
قال القاضي عياض: في هذا الحديث فضل ما للساعي لقوام عيشه وعيش من يقوم به وابتغاء فضل الله الذي به قوام بدنه لعبادة ربه، وقوام من يمونه ويستر عوراتهم وأجر نفقاتهم أنه كالمجاهد، وكالصائم القائم.
في فجر الإسلام، وفي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها يتسابق عليها الصحابة لرعايتها ورعاية أبنائها وكفالتهم، فلا عجب أن نجد صحابية جليلة تتزوج أربعة من الصحابة كلهم نالوا الشهادة، فلم تُعيَّر في المجتمع، ولم يُقل عنها: إنها وجه شؤم، ولم تتهرب منها النساء خوفاً منها على أزواجهن، ولم يعتب عليها رجل أو امرأة بحجة أنه يكفيها ذكرى زوجها، ويكفيها ما لديها من أبناء، ويكفيها تجربة واحدة.
كانت عاتكة رضي الله عنها من خيرة النساء تزوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم تزوجها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى استشهد، ثم تزوجها الزبير بن العوام، حتى قال عنها الصحابة: «من أراد الشهادة فعليه بعاتكة»؛ رغبة فيها وليس إعراضاً عنها أو تخويفاً منها.
وها هي أسماء بنت عميس حين تزوجت علياً بن أبي طالب، وفي حجرها أبناء أزواج سبقوه وهو يداعبهم ويضاحكهم، يربيهم ويقوم عليهم.
لم تُترك امرأة في عهد الصحابة تبحث عن قوتها وقوت من تعول إلا وتكفل بها رجل من المسلمين وبأبنائها ليعفها ويعفهم، فكان المجتمع متكافلاً طاهراً من الحقد والحسد والاكتئاب.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً إلا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه، ولم تتهم امرأة ممن تزوجهن بخيانة ذكرى زوجها أو التخلي عن أبنائها، بل إن الزوجة الأولى له عليه الصلاة والسلام وهو ابن الخامسة والعشرين وهي ذات الأربعين عاماً كانت السيدة خديجة رضي الله عنها، وكان لديها أبناء من أزواج سابقين، ولم يتزوج معها في حياتها قط، وظل حب خديجة في قلب النبي عليه الصلاة والسلام مثار غيرة عائشة حتى بعد وفاتها بأعوام طويلة، لقد كانت الأرملة مكرمة، عزيزة، محط تنافس راغبي الجنة، فكان مجتمعاً فريداً، بدين وأخلاق عالية.
ومن السعي على قضاء حاجات الأرامل ويضاف إليهن المطلقات -وهن كثر في مجتمعاتنا العربية والنسبة ترتفع كل عام عن سابقه مما يهدد وجود الأسرة بشكل كبير- فوجود أسرة مستقرة وزوج يستر المرأة ويكفيها همَّ جانبي الحياة؛ المادي والمعنوي، أهم ما تفتقده الأرملة أو المطلقة، خاصة إن كانت تعول، وإن كانت في سن صغيرة.
الفطرة التي خلق الله تعالى الناس عليها أن يكون لكل طرف زوج خاصة المرأة إلا بزوج يقوم على رعايتها، وقليلات هن اللاتي يستطعن أن يقضين حياتهن بغير زوج، ولا يمكن أن يمثلن قاعدة في البشر، بل هن الاستثناء بين الأصل.
على المجتمع المسلم ألا يسمح بوجود امرأة تبيت ليلها خائفة، أو حزينة، أو جائعة، فتضيع وتضيع من تعول، على المجتمع أن يحرص على سد الذرائع، وسد حاجة تلك النساء كي يدخل في دائرة الأمان والعدل والخروج من دائرة الظلم.
ظل الرجل
يقولون في المثل الشعبي: «ظل رجل ولا ظل حائط»؛ وهو مثل يحث الفتيات أو النساء عموماً على القبول بأي طارق على باب بيت الأهل أياً كانت ظروفه أو أخلاقه تعبيراً عن أهمية الزواج بالنسبة لكل فتاة، وهو بالطبع مثل مرفوض في الشريعة الإسلامية، فالرجل الظالم ظله لن ينفع أي امرأة، والرجل الكاذب والعاصي وآكل الحرام والذي لا يعمل والديوث، كل هؤلاء لن ينفع ظلهم أحد، ولن ينفعوا حتى أنفسهم، وعلى ولي المرأة أن يحسن الاختيار لابنته أو أخته حتى لو كانت زيجة ثانية.
فمن يرد التعدد وهو يظلم زوجته الأولى، أو يقصر في حقها، أو يقصر في تربية أبنائه لا يؤتمن على زوجة أخرى، والزوج الذي يقبل بعمل زوجته ثم يحاسبها على راتبها وينفقه على بيته الذي يجب أن يحمله كاملاً هو رجل لا يؤتمن على زوجة ثانية، فلا يزوج إلا الرجل العادل ويجتهد في الاطمئنان على عدله وأخلاقه وعلاقته بربه وخشيته منه سبحانه.
نعم إن مجتمعاتنا القديمة آمنت يوماً بأن الزواج للمرأة هو الأهم ولو كان مجرد ظل أي رجل، لكن الإسلام أتى بتكريم المرأة في كل حالاتها، سواء كانت فتاة لم يسبق لها الزواج، أو كانت ثيباً، أرملة أو مطلقة، أكرمها ورفع من شأنها ليضمن لها من يصون كرامتها ويحمل عنها كي لا تحزن أو تنتهك حرمتها، فليكن ظل رجل، لكنه حقاً كالرجال.