في الوقت الذي يتعرض فيه المسلمون لحملات شرسة تستهدف عقيدتهم ومقدساتهم، وتاريخهم، بل وجودهم ذاته، فإنه يتعين على المسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم بما استطاعوا، ويقاوموا تلك الموجة العاتية والأكثر شراسة على مدار التاريخ الإسلامي بكل ما أوتوا من قوة، وألا يستسلموا لحالة الاستضعاف والوهن وضعف الهمة والفاعلية التي يريد عدوهم أن يغرقهم فيه ليظلوا في مؤخرة ركب الأمم تابعين لا متبوعين برغم ما لديهم من الطاقات الروحية والمادية التي تجعلهم في موقع الريادة والتوجيه كما أراد الله تعالى، إذ يقول: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ) (البقرة: 143).
مخاض عسر قبل ميلاد مرتقب
ويقيننا الراسخ أنه برغم شدة وعنفوان تلك الحملات التي تتعرض لها الأمة، فإنها المخاض الذى يسبق الولادة المرتقبة لخير أمة أخرجت للناس من جديد، حيث الظهور الإسلامي الثاني، وعودة الخلافة الراشدة لتبسط أجنحة الرحمة على البشرية مرة أخرى لتتذوق نعمة الأمن والاطمئنان، من بعد سنوات عاشتها بين الحروب والويلات والشرور، إنه وعد الله الذى نؤمن به كأنه رأى عين؛ (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ) (النور: 55).
بيد أن عودة الأمة لسابق عهدها، وقديم مجدها، وسالف عزها لن يكون بغير تضحيات جسام من مخلصي أبنائها في كل ميدان، حيث يتحتم عليهم أن يعملوا عقولهم على أقصى ما تطيق تقريبًا لذلك الوعد الإلهي المبين بإذن الله، فوعود الله تعالى غالبًا ما يكون تحققها على أيدي أناس بذلوا الجهد لاستنزال وعد الله ونصره وتمكينه.
زمن المعجزات ولى لكن الفرصة لإنجازات عظيمة لم تزل قائمة
يقول الناس متهكمين أحيانًا على من يطلب تحقيق تغيير كبير في هذه الحياة: إن زمن المعجزات قد ولى، ويظنون بذلك أنهم يوهنون عزمات الشباب المتوثب عزمه، المتوقدة همته للقيام بعمل جليل خدمة لأمته يذكر فيشكر ويخلد إذ تعتدل به الأوضاع المقلوبة رأسًا على عقب، ويستقيم به ما اعوج من شؤون الحياة.
وقد يكون كلامهم صحيحًا من وجه، لكنه ليس صحيحًا على إطلاقه من كل وجوهه، فزمن المعجزات ولى حقًا؛ أي ما يجريه الله تعالى من أعمال تبدو خوارق للطبيعة برهانًا على صدق رسالة نبي من أنبيائه، وحفزًا للناس على تصديقه والتزام ما أتى به من هداية وفق منهج الله تعالى، لكن من يمكنه أن يصنع ما يشبه المعجزات لغايات يعلمها الله تعالى رحمة بالناس، وتمكينًا للقيم النبيلة في الحياة لم يزل موجودًا، أو يمكن أن يوجد، ويصنع على عين الله تعالى وعلى أعين الناس، وهو قادر حين يوجد مؤهلًا بكل الطاقات اللازمة له أن يحقق ما هو معجزة في أعراف الناس، أو ما يتجاوز معنى المعجزة بمراحل.
لم يزل الإنسان المؤهل قادرًا على تحقيق الكثير ولكن للإنجاز الرفيع شروطه ومقتضياته
لم يزل الإنسان بكل ما وهبه الله من طاقات وقدرات على الفعل، وبما سخر له في هذا الكون ليستجيب لعقله المفكر، وعلمه القائم على النظر والتجريب وطول والبحث والتنقيب، لم يزل هذا الإنسان موجودًا، أو ممكناً وجوده، وإنه ليحقق بالعلم والعمل فيما ترى أعيننا اليوم الكثير والكثير مما يشبه المعجزة سواء في تلك المنشآت المعمارية بينة الفخامة بالغة التعقيد، وتلك المخترعات العجيبة المبتكرة في مختلف مجالات الحياة، وتلك الانتصارات الحربية في معارك الشرف والكرامة الناتجة عن تخطيط محكم، وعبقرية حربية فذة ، وعمل دؤوب، وحسن سياسة نادرة.
لقد اقتضت حكمة الله العلية أن تجرى الإنجازات المختلفة على الأرض وفق السنن التي وضعها الله تعالى في هذا الكون قوانين صارمة ليستقيم في حدودها أمر هذا الكون وما فيه، ومن سننه الفاعلة في الكون أنه يضرب الحق بالباطل والباطل بالحق تمييزاً للصفوف، وشحذاً للهمم، واستدامة لبعض أسباب البقاء في صورة سُنة التدافع، اختباراً للمؤمنين، وإقامة للحجة على الكافرين والمضلين؛ (كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ) (الرعد: 17)، (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ) (الحج: 40).
من هنا، فإن المعجزات أي الأعمال التي تبدو خارقة لنواميس الطبيعة لم يزل لها أو ما يشبهها في دنيا الناس اليوم مكان، ولكنها لا تتحقق على أيدي أنبياء ورسل مؤيدين بوحي السماء، ولكنها تتم بأيدي الفئة المؤمنة الصابرة المحتسبة الموصولة القلب بالله تعالى، فهي التي تصنع ما قد يظنه الناس معجزات، وما هي بمعجزات بل إنجازات العقل البشرى والنفس البشرية حين تعزم وتحزم وتقدم.
إن انتصارات كثيرة شهدها تاريخ الأمة تبدو في عيون الناس معجزات أو ما يشبه المعجزات، وإلا فكيف انتصر المسلمون في حروب الفتح العظيمة، وفي حروب بلقاء في تاريخ الأمة بمختلف الأصقاع كـ«القادسية» و«نهاوند»، وغيرها من معارك فتح فارس التي أطاحت بعرش الطاووس الذي امتد آلاف السنين، و«اليرموك» وأخواتها من حروب فتح الشام التي أزالت ملك الروم عن تلك البقاع التي رزحت تحت نيرها دهورًا، ثم «الزلاقة» التي استدام الوجود الإسلامي بعدها بالأندلس قرونًا بعد أن كان آيلًا للسقوط، ناهيك عن حروب السلاجقة والعثمانيين التي تحار في بعضها العقول حتى لا تكاد تصدق ما تقرأ كما نرى في معارك «ملاذكرد»، و«موهاكس»، و«جناق قلعة».. وغيرها.
ومما يشبه المعجزات في غير ميادين المعارك ذلك التحول العجيب لشعب مقاتل عنيد شديد التوحش كالمغول من شعب متعطش للدماء إلى شعب مسلم تسخر قوته لخدمة الإسلام بعد أن دمر عشرات الممالك الإسلامية خلال زحفه الهادر، وكان العجيب أن يتحول هذا الغازي الفاتك لاعتناق دين الأمة التي انتصر عليها واستذلها على عكس ما ألفت سير البشر.
أما تلك المعجزات المعمارية في تاج محل بالهند، وقصور الحمراء والتحف الهندسية بالأندلس، وقباب السليمانية والسلطان أحمد بإسطنبول، والسلطان حسن والقلعة بمصر.. وغيرها، فهي دليل آخر على ما يمكن أن يسجله العقل البشرى المسلم من صور الإنجاز والإعجاز.
لم تزل العقلية المسلمة قادرة على العطاء فلنثق بأنفسنا وقدراتنا
ولم تزل العقلية المسلمة قادرة على العطاء المعجب، فهذا مهندس شاب مسلم كان له الفضل في تعريب برامج الهواتف الذكية، وآخر يبتكر اللوغاريتمات التي تتحرك بها أجهزتنا الذكية اليوم من حواسيب وغيرها، وثالث كان على رأس فرق تسيير مراكب الفضاء من خيرة العقول الهندسية، ورابع يكتشف «الفيمتو ثانية» فيقتنص «نوبل»، وخامس يبتكر طائرة تطير بغير طيار فيكون من شأنها أن تغير موازين المعارك وتصبح رقماً صعباً يحسب له ألف حساب، وهناك غيرهم كان لهم قصب السبق وبصماتهم التي لا تمحى كل في مجاله؛ ما ينبغي أن نعلمه لأجيالنا لتثق بنفسها وبقدرتها على الفعل والتغيير، وأن الزمن ليس زمن الأوروبي والأمريكي يصنع فيه ما شاء، بل ما زال للمسلم مكان يستطيع فيه أن يزاحم بالمناكب وينتج ويبدع ويسبق.
نعم، لم تزل خلية الإسلام تعسل، ولكن ستظل المشكلة أن العقول المسلمة لا تكاد تحظى بالرعاية الكافية في أوطانها فتضطر أن تهجر أعشاشها، وتستقر بالغرب لتضيف من قوتها لقوته دون قوة أمتها التي تنتمي إليها فيما يشبه الاضطرار أو الانتحار.
فما يسميه الناس معجزات اليوم هو نتيجة جهود جبارة، وسعي حثيث، وعمل دؤوب، ويضاف له في تجربتنا الحضارية المميزة يقين بالله لا ينقطع في رفده ومدده؛ لأن الله جعل من سُننه في الأرض أن يتنزل نصره وتوفيقه على من عمل لهذا النصر في أي مجال من مجالات الحياة على أكمل وأجمل وأسمى ما يكون العمل والسعي.
نحن على موعد مع إنجازات وانتصارات قادمة هائلة
وقد تسمى تلك الخوارق للطبيعة التي يمتن الله بها على بعض خلقه كرامات أو نحو ذلك من المصطلحات التي يتواضع عليها الناس، لكن الحقيقة تبقى أن هناك فعلاً إلهياً ينتظره المؤمن دوماً ويسعى إليه موقناً أن بذل غاية الوسع تنتهي دوماً باستنزال دعم إلهي يحسم الأمر لصالح المؤمن في أشد اللحظات حرجاً، وأقرب ما يكون المرء لليأس مما بين يديه حيث يرى أنه أوفى على الغاية، ولم يعد في مقدوره من حيلة إلا أن يجأر بالدعاء إلى الله مخلصاً أن يفي له بوعده الذي لا يتخلف أبدًا؛ (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ) (آل عمران: 9).
لا ينبغي أن يخيفنا حجم ذلك الهجوم الشرس على أمتنا من كل حدب وصوب، ولا ينبغي أن يفت في عضدنا أو يوهن عزيمتنا ويكسر إرادتنا كل ما حولنا من صور الكيد فندع المقاومة استسلامًا لمنطق الضعف والهزيمة، فهذه غاية ما يريد عدونا، ولكن العكس هو ما ينبغي أن يكون فلا بد من مواصلة المقاومة والتفنن في أساليبها كما يتفنن عدونا في أساليب حربه، وحين نوفي على الغاية ونستشعر يقيناً أننا بذلنا أقصى الوسع حتى بلغت القلوب الحناجر، ويظن بعض الأقزام بالله الظنون عندئذ سيفرح المؤمنون بنصر الله بعد تضحيات جسام، ومعاناة بالغة، ومخاض عسر أشد ما يكون العسر.
فلنحرس بعناية أسلحتنا وأمتعتنا
فلنكن على قدر المسؤوليات الضخام التي نيطت بنا في هذه المرحلة التاريخية الفاصلة من تاريخ أمتنا المجيدة، وليحسن كل منا الوقوف على ثغرته حتى لا نؤتى من قبله، ولنكن على وعي بأبعاد المعركة التي نخوضها ولا نغفل عن أسلحتنا وأمتعتنا فيميل علينا العدو ميلة واحدة.
إن متاعنا الثمين الذي يتعين علينا أن نحميه بأرواحنا ودمائنا يتمثل أول ما يتمثل في هذا التراث التليد الذي ورثناه عن خير الجدود، والذي يتعرض اليوم لحرب شرسة على أيدي من يتسمون بأسماء المسلمين، ناهيك عن غيرهم من شياطين الإنس والجن هنا وهناك، وينبغي ألا ينقص هذا الدين وفينا عرق ينبض كما كان يزأر الصديق في وجه المرتدين والمخذلين معًا في لحظته التاريخية الفاصلة: «لا ينقص الدين وأنا حي».
ومن متاعنا الثمين الذي علينا أن نرعاه رعي الرجال هذه الأجيال الناشئة المستهدفة بهذه الحرب الضروس والسيل الجارف من القذائف التي لا تتوقف ليل نهار عبر الشاشات الصغيرة والكبيرة في زمن السماوات المفتوحة، والفتنة التي تدخل كل دار كما نبأنا بصدق لسان النبوة الصدوق.
ويأتي من بعد ذلك مقدرات الأمة مما من الله به عليها من ثروات طبيعية، ومكتسبات حضارية، وقيم أخلاقية، وطاقات بشرية وهي جميعًا في مرمى النيران يصيب منها العدو أحيانًا ويخطئ، جراء حالة الوهن والاستضعاف التي نمر بها.
وإذا كنا نعى جيدًا حقيقة أمتعتنا ومواقعها وما ينبغي أن نفعله حماية لها، فإن الوعي بأسلحتنا لا يقل أهمية عن ذلك، ولست أرى الأسلحة الحربية هي الأخطر والأولى في مضمار هذه المعركة التي نخوضها اليوم، لكن الأسلحة الفكرية والعلمية تبدو أخطر مكانًا، وأبعد أثرًا.
إن المخبار في يد العالم في معمله، والكتاب في يد الشيخ في مسجده، والأستاذ المعلم في مكتبه، والطالب المجد على مقعد درسه، والقلم في يد الكاتب أو المفكر الحادب على أمته، الأمين على قيمها وتراثها التليد، إن هذه الأدوات جميعًا لا تقل خطورة في حسم معركتنا الراهنة عن البارجة والغواصة والطائرة والصاروخ، بل نراها كما أسلفنا أبعد أثرًا، وأشد خطرًا، ومن ثم فإن المهمة الرئيسة والمحورية أمام كتائب طليعة الأمة المدافعين عن بيضتها، وأسرار وجودها أن تضع الأمور في نصابها، وتحسن ترتيب أولوياتها، وشحذ أسلحتها ولتنطلق في طريقها معتمدة على الله وحده موقنة أن النصر قريب، وموعدنا مع الميلاد الجديد لأمة الشهادة والريادة لتعيد إلى الأرض السلام؛ (وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَۖ قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَرِيبٗا) (الإسراء: 51)، (إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ) (هود: 81).