شرع الله عز وجل الطلاق بالرغم من تشديده سبحانه في الحفاظ على مؤسسة الزواج بكافة الطرق المتاحة من حل المشكلة بين الطرفين، وتدخل الأقرباء من الطرفين ابتغاءً للإصلاح، بدءاً بالهجر في المضجع وحتى عرض الخلاف على أطراف أخرى.
وبالرغم من هذا، فإن الله تعالى سَنَّ الطلاق حين لا يكون هناك حل سواه، حل يمنع الكثير من المشكلات الإنسانية التي قد تحدث حال الاستمرار فيه، منها البغض بين الطرفين وتفاقم المشكلات والحالة النفسية للأبناء الذين يضطرون العيش في أجواء متشاحنة.
وما نراه اليوم في بلاد العرب والمسلمين حين يقع الطلاق من بيع لكافة القيم والمبادئ والأخلاقيات، وعدم مراعاة العشرة الطيبة، أو مراعاة وجود أبناء بين الأبوين، لا يمت للدين بصلة، ولا لأي أخلاق معروفة عند الناس، والتشريع الإسلامي كما وضع حدوداً وقوانين وقيماً في حالة الزواج الذي أسماه بـ«الميثاق الغليظ»، قد وضع نفس القيم والأخلاقيات في حال الانفصال الأليم.
الطلاق في شريعة الله تعالى
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً {19} وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً {20} وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء)، في هذه الآيات الكريمة بدأ الله عز وجل بتبيين أن الحياة لا تنبني على الحب وحده، وإنما على التفاهم وحسن العشرة والمسؤوليات والاهتمامات المشتركة والقوامة وغيرها من الأمور التي تربط الذكر بالأنثى غير مسألة الحب والتعلق.
فإن فشلت كافة محاولات الإصلاح والرجوع للرباط الأسري، فلا مناص من الانفصال مع العدل الكامل، وإعطائها كافة حقوقها وفق ما شرعه الله عز وجل وتذكر الميثاق الغليظ الذي أخذنه منهم؛ (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) (النساء: 130).
وحين تحين لحظة الطلاق، يفكر الزوج في الانتقام من تلك التي فشلت في العيش معه واستيعابه والحفاظ على بيتها، وأول ما يخطر له حرمانها من بعض حقها، فيذكره الله تعالى في محكم آياته قائلاً: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً)؛ ليذكر الرجل في اللحظات الأخيرة وقبل أن يقع في خطيئة الانتقام بأن هناك ما هو أكبر من مال قد يغدقه عليها وعلى أطفالها، وأن هناك ما هو أكبر من الرغبة في الانتقام لرفضها الاستمرار في حياتها معه عند هذا الحد، وأن هناك أكبر من تعقبها ليشفي مرضاً في قلبه يحركه نحو تعذيبها بانحطاط أخلاقي متنصلاً من مسؤولياته تجاهها وتجاه أبنائه.
فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان
كم من قضايا تشهير وفضح تشهدها المحاكم العربية بين أزواج تم طلاقهم بالفعل، يستغل أحد الأطراف الأسرار التي يعرفها عن الآخر بحكم الزوجية والعشرة، فيستغل المعارف المحيطين أو وسائل التواصل الاجتماعي ليشهر بالطرف الآخر دون مراعاة لأي قيمة أخلاقية عند المسلم أولاً، وعند الأزواج ثانياً.
فيستغل الرجل مثلاً ضعف المرأة وحساسية موقفها فيشهّر بها لكسب موقف أو كسب حضانة الأبناء أو لمجرد الانتقام منها، وبعضهم ذهب بعيداً في استخدام صور بينهما تمت في فترة الزواج، فينشر الصور أو المحادثات ليذهب ما تبقى من رجولته ومروءته وربما دينه وهو يسلك هذا المسلك الدنيء، وتلاقي مثل تلك الصور رواجاً بين المتابعين فتلوك الألسنة ما ليس لها به علم وتتناقل أخباراً ليس لها من الأساس صحة، أو ما كان لها أن تنكشف وتستر وتموت في خزانة أسرار زوجين كل منهما تجاه الآخر.
والحقيقة أن القانون وضع عقوبات شديدة لمن يقدم على تلك الأفعال، لكنها لليوم ليست ناجعة ورادعة لتوقف منعدمي المروءة والأخلاق، فتراهم يقدمون عليها كالشياطين تلتقي على قارعة الطرق.
وأما الإسلام فقد حرم إفشاء الأسرار بين الزوجين؛ فعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِى إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِى إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» (صحيح مسلم).
والأصل عند المسلم حسن الخلق، وأولى الناس بحسن خلقه زوجته التي أفضت إليه وأفضى إليه وإن استحالت العشرة بينهما، فيقول الله تعالى حين لا يكون هناك سبيل للرجوع: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: 229).
وهنا نرى التوازن الإنساني العجيب في أحاكم الله عز وجل الخاصة بالزواج والطلاق، ويشهد تاريخ الأمة بحالات انفصال سامية تطمح إليها الأمة، بل والعالم اليوم لتستقيم الحياة وتهدأ النفوس ويحيا الأطفال حياة طبيعية كبقية أقرانهم في كنف رجال بحق، وأمهات بحق.
أما ما يدور اليوم فهو شرود بالإنسانية إلى عالم الحيوان، وإن من الحيوان لأفضل من أولئك المحاربين لدين الله وأحكامه، إن للحياة في ظل شريعة الله سمو وبركة وسعادة لا يعرفها إلا من عاش بها.