خلق الله عز وجل الإنسان وجبله على حرية اختيار الطريق الذي يسير فيه بعد أن بين له ماهية ذلك الطريق ومآل كل اتجاه يختاره بكامل حريته، فطريق الصلاح له أدلة عديدة حفه الله عز وجل بالمكاره بينها رب العالمين، وبين كذلك أن نهايته والجنة.
وأما الطريق الآخر، فعن أنس قال فيما رواه البخاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُفَّتِ الجنَّةُ بالمكارِهِ وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ»؛ فقد بين سبحانه كذلك طريق ظلم النفس باتباع الشهوات خاصة في الأشهر التي ميزها الله تعالى ببعض العبادات عن غيرها من الشهور الأخرى، وهي الأشهر الحرم الأربعة التي عظّمها اللهُ سبحانه، وأجمل القرآن الكريم ذكرها في قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) (التوبة: 36)، وهذه الأشهر، هي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجَّة الوداع، فقال: «إنَّ الزمانَ قد استدارَ كهَيئتِه يوم خلَق اللهُ السماواتِ والأرضَ؛ السنَة اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حُرُم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان» (رواه البخاري، ومسلم).
وكما ميز الله عز وجل بين الأيام فجعل بعضها أفضل من بعض، فكذلك فضّل بعض الأمم على بعض، فميز أمة الإسلام عن سائر الأمم، فأجزل لها العطاء وأغدق عليها بأيام تحمل نفحات عظيمة، هي فرصة للسمو بالنفس والقرب من الله والتطهر من المعاصي والحصول على الدرجات العالية، هي فرص متكررة ليست إلا للأمة المحمدية التي أكرمها ربها بالإسلام، أهداها سبلها، وحرم عليها إيذاء نفسها.
ظلم النفس في الأشهر الحرم
ظلم النفس في الأشهر الحرم مفهوم يشير إلى إيذاء الإنسان لنفسه بارتكاب المعاصي والذنوب في هذه الفترة الزمنية المباركة، يعد هذا التصرف مخالفاً لحرمة هذه الأشهر وتضاعف الأجر والثواب فيها، وهو يعد خسارة كبيرة للمسلم، وكل بلية في الحياة فردية أو جماعية وراءها معصية لله عز وجل، فجزاء المعصية يعود على الفرد في الدارين.
وفي الأشهر الحرم يكون مضاعفاً كما أن الأجور فيه مضاعفة، وذلك هو تفسير الآية الكريمة (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)، فيظلم الإنسان نفسه بارتكاب ما يستدعي العذاب المضاعف في تلك الأشهر المباركة.
فما خرج إبليس من رحمة ربه وصفوف الملائكة إلا بمعصية، وما خرج آدم عليه السلام من الجنة إلا بمعصية، وما ضعفت الأمة اليوم حتى صارت نهبة لكل أعدائها وتشرذمت إلا بانتشار المعاصي الفردية والجماعية ومعصية ربها في الأخذ بكامل أسباب القوة والتخلي عن شريعة ربها.
وسنن الله عز وجل لا تحابي أحداً من خلقه، وفي ذلك يقول تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت: 40)، ويقول تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30).
آثار المعاصي على المسلم
إن للمعاصي على حياة الأفراد شؤماً ينعكس على القلب والسلوك والرزق والأبناء والزوجة، في كل الأيام، وأثرها مضاعف في الشهر الحرم، ومن آثار المعصية في حياة المسلم:
1- ظلمة القلب ووحشته والحرمان من العلم، فكل معصية تنكت نكتة سوداء في القلب فتحيل بينه وبين الله عز وجل، يقول تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ {14} كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ {16} ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ) (المطففين).
2- العاصي في لعنة الله عز وجل وملائكته وكل لاعن، فالمعصية جالبة للعنة صاحبها حيث يقول الله تعالى: (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة: 159).
3- أن المعصية تهين صاحبها والطاعة تعز المطيع، يقول الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) (الحج: 18)، وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفاً من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه(1).
وأُثر عن ابن عباس أنه قال: إن للحسنة لنوراً في القلب وضياء في الوجه، وسعة في الرزق وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لسواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنا في البدن ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق.
4- المعصية تلقي بصاحبها في النار إذا أحاطت به، فيقول الله تعالى: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 81).
والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من اجتماع الذنوب وكثرتها وإن كانت من الصغائر لأنها تهلك صاحبها، يقول: «إياكم ومحقَّرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه».
5- المعاصي والذنوب سبب في هزائم الأمة؛ يقول الله تعالى في الصحابة حين أصابهم العجب: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (التوبة: 25).
6- المعاصي من أكبر أسباب زوال النعم؛ فيقول تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون) (النحل: 112).
فضل مبادرة التوبة في الأشهر الحرم
وردت الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة مرغبة في التوبة في كل وقت وحين، وذلك بالعجلة فيها عقب ارتكاب الذنب، يقول تعالى واصفاً حبه للتوابين: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة: 222)، ويقول تعالى: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة: 74).
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يحكي عن ربه عز وجل، قال: «أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلِم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلِم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلِم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرتُ لك»، قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: «اعمل ما شئت» (رواه البخاري، ومسلم).
فإذا كان حب العبد لتوبة عبده في الأيام المعتادة بهذه الصورة المحببة، فكيف بها في أيام يحبها الله عز وجل وفضلها على سائر الأيام التي وضعها الله عز وجل للخلق في ملكه؟ إن على العبد المسلم أن يبادر في كل وقت بالرجوع إلى الله مهما تعددت ذنوبه طالما أنه حقق شروط التوبة من ندم وإقلاع وإصلاح، وعليه أن يتعرض لنفحات الله عز وجل في أيامه المفضلة بالتوبة والرجوع والإنابة، عسى أن يكون من عباده الصالحين.
___________________
(1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم الجوزية، ص58.