إن أبواب الخير كثيرة، ومواطن التقرب إلى الله متنوعة، والعاقل الفَطِن من طَرَقَ هذه الأبواب، وكان له في كل موطن من مواطن العمل الصالح نصيب وسهم، وجمع بين العبادات الفردية والمتعدّية التي يمتد أثرها وتعمّ بركتها ويصل خيرها إلى غيره من الناس، فتلك العبادات أجورها عظيمة، ومنافعها كثيرة.
ومن هذه العبادات التي حثّنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عليها عبادة الشفاعة الحسنة، وبَذْل الجاه في نَفْعِ الناس، فقال سبحانه في كتابه الكريم: (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً) (النساء: 85)، هذه الآية الكريمة نزلت في شفاعة الناس بعضهم ببعض، فأسهب العلماء والمفسرون في شرحها، وتبيان الأعمال الصالحة التي تندرج ضمن باب الشفاعة الحسنة.
وجاء في الصحيح أن رسولنا الكريم إذا جاءه السائل أو طُلبت إليه حاجة قال: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء».
إن من نِعَم الله تعالى على عبده أن هيّأ له أسباباً بوّأته مكانة مرموقة بين الناس، وآتاه من الجاه والمنصب ما رفع به شأنه ومنزلته، وكتب له من القَبول والتأثير ما جعل كلمته مسموعة وشفاعته مُقَدَّرة، والمُوَفَّق من استعمل ذلك في خدمة الناس طاعةً لله، وأدّى واجب الشكر والحمد على هذه النعم العظيمة.
فلكل نعمة زكاة، فكما أن زكاة المال تُؤدى بإخراج جزء منه لمستحقيه، وزكاة العلم تكون بنشره وتعليمه، فإن زكاة الجاه والمنصب والمكانة والعلاقات تتمثّل ببذلها في منفعة الناس، وتسخيرها في الشفاعة الحسنة لكل محتاج أُغلقت في وجهه الأبواب، وتَقَطّعت به السُبُل، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ومُنع من الحصول على حقّه.
فهذه العبادة العظيمة عزيزة في هذا الزمان الذي طغت عليه المادية، وأصبحت فيه المقايضة سمة بارزة في بناء وتكوين العلاقات بين الناس، فلم يثبت على هذه العبادة إلا الرواحل من أهل المروءة والإخلاص والكرم، فصدق فيهم قول الإمام الشافعي: الشفاعات زكاة المروات.
وفي عصرنا هذا نماذج مشرقة من أهل المروءة الذين سَخَّروا جاههم ومكانتهم وعلاقاتهم في الشفاعة الحسنة لعباد الله، فالناظر إلى سيرة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله يجد أن الشيخ كان يكتب مئات الكتب إلى المسؤولين في جميع بقاع العالم الإسلامي لينقذ مظلوماً، أو يعين طالب علم، أو ينصر أقلية إسلامية.
وفي الكويت عُرف الشيخ العابد جاسم مالك الكندري رحمه الله بسعيه في قضاء حوائج الناس، فكان يخرج من بيته فجراً ولا يعود إلا قبل أذان العصر، وقد خصّصَ ذلك الوقت لقضاء حوائج الناس ممن يعرف ومن لا يعرف، فكتب التاريخ سيرة هؤلاء وغيرهم بأحرف من نور.
إن زكاة الجاه عبادة لا ينفق فيها العبد درهماً ولا ديناراً، ولكن يستثمر مكانته في الشفاعة لمظلوم، ويُسَخِّر علاقاته في إدخال السرور على مهموم، ويجعل منصبه وسيلة للتيسير على عباد الله تعالى، ويسير بين الناس قاضياً لحاجاتهم جابراً لخواطرهم، لا يبتغي من وراء ذلك كله إلا الأجر والمثوبة ممن عنده خزائن السماوات والأرض.
وأَدِّ زكـــاة الجـــاهِ واعلــم بأنــها كَمِـثْـلِ زكـاةِ المالِ تَمَّ نِصابُها
وأَحسِنْ إلى الأحرارِ تملك رقابَهم فخيرُ تجاراتِ الكرامِ اكتسابُها