قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل» (أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط).
هذا هو الأصل في حياة المسلم، إلا أن البعض ينسى هذا كله ويسيء الظن بالناس ولا يلتمس لهم الأعذار، ومن ثَم يقع في عائق من أشد العوائق التي تعيق السير في الطريق إلى الله سبحانه وتعالى.
تعريف سوء الظن
سوء الظن هو عدم الثقة بمن هو لها أهل(1)، وقال ابن كثير: سوء الظن التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله(2)، وقيل: سوء الظن اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمل الأمرين معا(3).
وعند علماء التربية، سوء الظن: تخريص أو تخمين ينتهي بوصف الغير بما يسوؤه ويغمه من كل قبيح من غير دليل، ولا برهان.
مظاهر سوء الظن
من علامات الوقوع في هذا العائق:
1- القعود عن نُصرة الإسلام بحجة أن ذنوبنا كثيرة لن تغفر، ولا يمكن أن تغفر، وأن الله تعالى تخلى عنا بسبب هذه الذنوب.
2- الوقوع في المعاصي ظناً أن الله لا يرى، ولا يعلم، وهذا ما أشار إلى القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) (فصلت: 23).
3- اتهام الآخرين بالتقصير في أعمال البر المعروفة، مثل عيادة المريض، وتشييع الجنائز.. وأن هذا التقصير نشأ من التكبر والاستعلاء أو من الاحتقار وعدم الاهتمام، دون معرفة للسبب الحقيقي لهذا التقصير.
4- اتهام الآخرين بالرياء عند قيامهم بأعمال المعروفة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدقات، وإرشاد الناس وتعليمهم والإصلاح بين المتخاصمين.. ونحوها.
5– اتهام الآخرين بالتكالب على الدنيا عندما يرونهم يتقنون السعي المعاشي من تجارة أو صناعة أو زراعة ونحوها، امتثالاً لقول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك: 15).
6– اتهام الآخرين بالجبن أو التهور عندما يرونهم يحرصون على الحياة في الوقت الذي يقتضي الحرص على الحياة، والإقدام على الموت في الوقت الذي يقتضي الإقدام على الموت كما أمر الإسلام بذلك.
عواقب سوء الظن
لسوء الظن بالناس وعدم التماس الأعذار لهم عواقب خطيرة يحترق بنارها الفرد، والجماعة، فعلى مستوى الفرد:
– الوقوع في المعاصي والسيئات: وذلك عندما يريد سيئ الظن أن يتحقق من صحة ظنه، فإنه يقع في سلسلة طويلة من المعاصي والسيئات، كالتجسس والغيبة والنميمة، والتحاسد والتباغض، والتدابر، والتقاطع، والفرقة.
– القعود عن أعمال البر والطاعات فضلاً عن القلق والاضطراب النفسي: حيث إن الوقوع في المعاصي من أسباب سواد القلب ومرضه وقسوته، وبعده عن فعل الطاعات وقربه من التلوث بالمعاصي.
– الحسرة والندامة: فقد ينتهي سوء الظن بصاحبه بعد البحث ومحاولة التحقق أو التأكد إلى عكس ما توهم، وهنا تكون الحسرة والندامة إن كانت لا تزال لديه بقية من خير.
– كراهية الناس ونفورهم من سيئ الظن: وذلك أن الناس حين يعرفون عن واحد من الناس أنه سيئ الظن، وأن ظنونه تنتهي إلى اتهامات لا دليل عليها، ينفرون منه ويكرهونه صحبته.
أما على مستوى الجماعة، فمن عواقب سوء الظن على الجماعة:
– الفرقة وتمزيق الصف: وذلك أن شيوع سوء الظن بين صفوف الجماعة يؤدي إلى أن التراشق بالتهم، ثم سحب الثقة من بعضهم بعضاً فيتباغضون، ويتدابرون، ويتقاطعون، قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (آل عمران).
أسباب سوء الظن
للوقوع في هذا العائق أسباب كثيرة، وبواعث عدة، نذكر منها:
– البيئة والنشأة: كأن ينشأ الإنسان تنشئة غير صالحة؛ فيقع في كثير في المعاصي والسيئات حتى تورثه تلك المعاصي وهذه السيئات سوء الظن بمن ليس أهلاً له.
– اتباع الهوى: ذلك أن اتباع الهوى حتى يصير هو الإله الذي يُعبد من دون الله تعالى، يوقع في الظنون الكاذبة التي لا دليل عليها ولا حجة، ولا برهان؛ ولعل هذا هو السر في نعي القرآن الكريم لهذا الذي اتخذ هواه إلهًا من دون الله، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية: 23).
– عدم مراعاة آداب الإسلام في التناجي: ذلك أن الإسلام أدبنا، أنه إن كان ولا بد من التناجي لصلاح الحياة واستقامة الحال، فإن هناك آداباً يلزم مراعاتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه) (أخرجه أحمد).
– المجاهرة بالمعاصي: فقد يقع الإنسان في المعاصي والسيئات وتصل به الحال إلى أن يجاهر بها، وعندئذ يفتح الباب أمام الآخرين ليظنوا به سوءاً؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» (متفق عليه).
– نسيان عواقب سوء الظن: قد يكون من بين الأسباب التي تؤدي إلى التردي في هذه العائق نسيان الآثار المترتبة عليه، إذ إن الإنسان إذا غفل أو نسي عاقبة شيء تردى فيه، وإن كان فيه حتفه وهلاكه.
علاج سوء الظن
على كل من أراد حماية نفسه من التردي في هذا العائق اتباع الخطوات التالية:
1- بناء العقيدة السليمة القائمة على حُسن الظن بالله، وبرسوله وبالمؤمنين الصالحين، فإن هذه العقيدة تحملنا على التماس الأعذار للآخرين وحسن الظن بهم.
2- تغذية هذه العقيدة بما يثبتها في النفس وينميها، وذلك بترك المعاصي والسيئات والمواظبة على فعل الطاعات وأعمال البر، فإن ذلك يجعلنا نتورع أن نقع في سوء الظن بمن ليس له أهلاً، وإن وقعنا فالتوبة والندم.
3- الالتزام بآداب الإسلام في النجوى من عدم تناجي اثنين فما فوقهما دون الآخر حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، ومن كون هذه النجوى في الطاعة والمعروف دون المعصية والمنكر.
4- تجنب الوقوع في الشبهات ثم الحرص على دفع هذه الشبهات إن وقعت خطأ أو عن غير قصد، فعن أم المؤمنين صفية بنت حيي قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، فمر رجلان من الأنصار رضي الله عنهما، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما إنها صفية بنت حيي»، فقالا: سبحان الله يا رسول الله؟ فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا»، أو قال: «شيئاً» (متفق عليه).
5- الحرص على سلامة البيئة، ولا سيما في مجتمع الأصدقاء، فإن ذلك له دور كبير في علاج سوء الظن وحماية النفس من أن تتورط فيه من جديد.
6- مجاهدة النفس وقمع هواها، حتى تعرف أنه ليس من السهل توجيه تهمة لأحد من الناس لمجرد ظن أو تخمين لا دليل عليه ولا برهان.
7- التذكير الدائم بعواقب سوء الظن في الدنيا والآخرة، على الفرد، والجماعة، فإن الإنسان كثيراً ما ينسى، وعلاج هذا النسيان بالتذكير، كما قال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 55)(4).
________________________
(1) أدب الدنيا والدين، أبو الحسن الماوردي (1/ 186).
(2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (7/ 377).
(3) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، مجموعة من المختصين (10/ 4654).
(4) آفات على الطريق، أ.د. السيد محمد نوح (1/ 349)، بتصرف.