يُعد المعمار الإسلامي أحد أبرز الشواهد التاريخية على الحقب الزمنية المختلفة، وتعاقب حكامها، وما خلفوه وراءهم من تراث ثقافي وفني تخطى البناء والوظيفة إلى تشكيل لغة فنية وحضارية تعكس الطابع الثقافي والاجتماعي والسياسي لكل عصر ومكان.
من دمشق إلى القاهرة والمغرب والأندلس، يتجلى التأثير المتبادل بين الجغرافيا، والثقافات المحلية، والإرث الإسلامي في التصاميم المعمارية.
دمشق.. الجامع الأموي
يُعتبر الجامع الأموي درة تاج المعمار الإسلامي، وهو الذي قال ياقوت الحموي في معجم بلدانه واصفًا بديع صنعته: ومن عجائبه أنه لو عاش الإنسان مائة سنة وكان يتأمله كل يوم، لرأى فيه كل يوم ما لم يره في سائر الأيام.
لما أمر الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك ببناء الجامع الأموي لم يكن في ذهنه أن يبني مكانًا للصلاة فحسب، بل أراد بناءً يرمز إلى دولته ويخلد ذكراها ما بقي هذا البناء.
فتجلى ذلك لا في بنائه ومعماره فحسب، بل حتى في استلهامه من غيره، فكان استعمال الفسيفساء فيما سبق أمرًا خُصَّت به الكنائس البيزنطية دون غيرها حتى اُستعملت في المسجد الأموي استعمالًا يُظهر شخصية المسلمين وعلمهم بأمور دينهم وتذكرهم لآخرتهم.
فعلى عكس الاستعمال البيزنطي، لم يكن في المسجد صور لذوات الأرواح، بل ظهرت إبداعات لأشجار تزدان بسطوع الشمس عليها في لفتة إلى ما ينتظر المؤمن من نعيم الأبد، وكأن حوائط المسجد المنقوشة بتلك الزخارف تجسد الحياة البرزخية التي تفصل بين المؤمن وما وعده به ربه.
أثر الجامع الأموي في المعمار الإسلامي الذي تبعه، حيث أصبح نموذجًا يُحتذى به في تصميم المساجد الكبرى، يقول المؤرخ هنري تيراس في كتابه «Art and Architecture in Islam»: إن الجامع الأموي وضع الأسس للعمارة الإسلامية، بما في ذلك المزج بين الوظيفة والرمزية.
والحقيقة أن المزج بين الوظيفة والرمزية أمر لا ينبغي تخطيه إلى ما بعده، كأنه أمر يسير، فما تقع عليه أبصارنا اليوم هو تجسيد لهيمنة الوظيفة دون مراعاة الرمزية.
والمقصود بالوظيفة: ما أُعد البناء من أجله، فهي في الجامع الصلاة والعبادة، وفي المباني السكنية المسكن، وفي مباني الشركات توفير أماكن عمل للموظفين.
أما الرمزية: فهي مراعاة البعد الجمالي والسياق الجغرافي سواء لمن يدخلون المبنى أم من يمرون به من الخارج.
وكما لا يخفى على القارئ الكريم، فنحن كلما يممنا أبصارنا لم نجد إلا قوالب خرسانية حينًا، أو ذات واجهات زجاجية أحيانًا أخرى؛ ليرتد إلينا البصر وهو حسير من بؤس ما يرى من بشاعة التوجه العمراني الحالي المعروف بـ«العمارة الوحشية» (Brutalist Architecture)، وهي فرع من عمارة الحداثة.
القاهرة.. مدينة الألف مئذنة
تعد القاهرة مدينة فريدة جدًا من نوعها؛ لتعدد هوياتها العمرانية بقدر تعدد مآذنها، وكأن السائر بين أحيائها يستنشق عبق تاريخها، وقد أفرد لذلك الإرث المعماري الحضاري الزاخر د. نزار الصياد كتابًا بعنوان «القاهرة وعمرانها.. تواريخ وحكام وأماكن».
من الأمثلة المعمارية التي ذكرها د. الصياد مسجد ابن طولون الذي ظهر فيه تأثر بانيه بالهندسة المعمارية في بلاط الخليفة المعتصم، ومن ذلك زخارف الجبس على المسجد، واستعمال أحجار الكِلس في بناء مأذنته التي تعد من مواد البناء الدخيلة على القاهرة آنذاك.
ولا يمكننا أن نتكلم عن القاهرة دون أن نذكر جامعها الأغر الأشهر الجامع الأزهر الذي أدخل فيه الفاطميون أنماطًا جديدة في تصميم المساجد كالأقواس المدببة والزخارف المعقدة.
يوضح روبرت هيلينبراند في كتابه «Islamic Architecture: Form, Function, and Meaning» أن الزخارف الفاطمية لم تكن مجرد تجميل للمسجد، بل كانت وسيلة للتعبير عن القوة الروحية والسياسية للدولة الفاطمية.
كما يصف دوريس بيهل في كتابه «Cairo’s Islamic Architecture» الجامع الأزهر بأنه ابتكار فاطمي عظيم يُبرز فهمًا معماريًا متقدمًا لوظيفة المساجد، حيث يتداخل البُعد الجمالي مع الجانب الروحاني، وهو ما أشرنا إليه سابقًا في حديثنا عن الجامع الأموي ومزجه بين الوظيفة والرمزية.
أما في العصر المملوكي، فقد تميزت العمارة بالضخامة والزخارف الدقيقة، كما يتجلى في مسجد ومدرسة السلطان حسن، حيث استخدم المماليك الأحجار الكريمة وأبدعوا في القباب والمآذن المزخرفة.
المغرب.. الجامع والجامعة
في المغرب، جامع القرويين في فاس، الذي تأسس في القرن التاسع، ويعتبر أقدم جامعة في العالم، بالإضافة إلى كونه أول جامعة تؤسسها امرأة؛ وهي أم البنين فاطمة الفهرية التي يُقال: إنها ظلت صائمة طوال فترة بناء المسجد شكرًا لله على نعمة الشروع في بنائه، ورجاء منها له في اكتمال هذا البناء، وقد كان لها ما أرادت رحمها الله.
من إبداعات تصميم جامع القرويين وهو تجلٍّ جديد لجمع المعماريين المسلمين للوظيفة والرمزية الساعات الشمسية الدالة على مواقيت الصلاة، بالإضافة إلى النوافير التي تستعمل مياهها للوضوء.
الأندلس.. قمة الإبداع
يقف قصر الحمراء في غرناطة شامخًا كواحد من أعظم الإنجازات المعمارية في التاريخ الإسلامي، وشاهدًا على العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، هذا الصرح المذهل، الذي شُيد خلال القرن الثالث عشر الميلادي على يد ملوك بني نصر يتوسطه فناء الأسود، الذي يُعد من أبرز معالمه، ويمثل ذروة الابتكار الهندسي، حيث يحمل نافورة الفناء اثنا عشر أسدًا، ومن هنا جاءت التسمية، يُوزع الماء من النافورة عبر قنوات صغيرة تصل إلى جميع أنحاء الفناء؛ ما يعكس عبقرية النظام المائي في قصر الحمراء.
يقول إدوارد سعيد، في كتابه «الاستشراق»: إن المعمار الأندلسي يجسد رؤية فنية متكاملة، حيث يتجاوز البناء الوظيفة ليصبح تجسيدًا لروح المكان والزمان.
يمكن القول: إن العمارة الإسلامية ليست مجرد فن بناء، بل مرآة تعكس التنوع الثقافي والثراء الفني للحضارة الإسلامية في مختلف عصورها وأقاليمها، سواء في دمشق أو القاهرة أو المغرب أو الأندلس، حيث نجد بصمة فريدة لكل فترة تاريخية، ليس هذا فحسب، بل نجد تطبيقًا عمليًا للأحكام الشرعية ومراعاتها كما في رسوم الجامع الأموي وساعات جامع القرويين، ولولا أن المقام لا يتسع لذكرنا غير المساجد من أمثلة كالمشربيّات التي حافظت على ستر البيوت وتهويتها ودخول الشمس إليها في آن واحد، ونظام المطرقتين في الأبواب ليُعلم من يدق الباب ومن يجدر به أن يفتح له.
لهذا، تظل دراسة المعمار الإسلامي بوابة لفهم أعمق للحضارة الإسلامية ودورها في تشكيل هوية إنسانية فريدة.