مدينة تشوانتشو إحدى أهم المدن الساحلية في مقاطعة فوجيان جنوب شرق الصين، ومنذ وقت مبكر، كان لها نصيب كبير من تجارة الصين مع البلدان الأجنبية؛ لذا فقد وصل إليها كثير من التجار العرب والأجانب في فترات مبكرة، وكانت أسواقها تعج بالتجار والبضائع، واشتهرت بـ«مدينة القارات العشر»، لكثرة الأجانب في أسواقها، وكذلك «سوق الأجانب».
وقد زارها ابن بطوطة في رحلته إلى الصين، وكتب عنها فقال: «لما قطعنا البحر كانت أول مدينة وصلنا إليها مدينة الزيتون، وهذه المدينة ليس بها زيتون، ولا بجميع بلاد الصين والهند، ولكنه اسم وضع عليها، وهي مدينة عظيمة كبيرة، ومرساها من أعظم مراسي الدنيا، أو هو أعظمها..».
ومدينة تشوانتشو كانت قديمًا مقرًا لعدد كبير من الجاليات العربية، وكان بها عدد من العلماء والمشايخ الذين كانوا يحظون بالسمعة الطيبة وباحترام المسلمين العرب المقيمين هناك، فعاشوا واستقروا في هذه المدينة، وخلَّفوا وراءهم كثيراً من الآثار التاريخية، أهمها المقابر والشواهد الحجرية، ومسجد الأصحاب،
مسجد «الأصحاب»
يضم مسجد «الأصحاب» رقيماً عربياً يحمل تاريخ المسجد، وقد ظل هذا الرقيم مهملاً ردحاً طويلاً من الزمن بسبب غموض كتاباته، ولم تظهر أهمية هذا الرقيم إلا بعد أن ميز أحد العلماء الإسبان فحواه في أوائل القرن العشرين، أما معاني الرقيم العربي فتتلخص فيما يلي: «هذا أول مسجد للمحليين يسمى المسجد القديم المبارك، كما يسمى مسجد الصحابة، وقد بُني في سنة 400هـ (1009 – 1010م)، وبعد 400 سنة من ذلك التاريخ تم ترميمه وتوسعته على يد أحمد بن محمد المقدسي، وقد بُنيت له هذه البوابة الضخمة والممر المسقوف الشاهق، كما أضيفت إليه الأبواب والشبابيك الجميلة وذلك ابتغاء وجه الله تعالى.
يشغل مسجد الأصحاب مساحة تقدر بهكتار واحد، ويتكون من 3 مبان رئيسة؛ هي قاعة الصلاة وقاعة الدعوة والبوابة، وهي تمثل أصل المسجد القديم، ثم أضيف إليها جزء رابع وهو قاعة صلاة جديدة أهداها السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان، رحمه الله، للمسجد عام 2009م؛ تخليداً لذكرى التاجر العُماني أحمد بن محمد المقدسي الذي جدد المسجد قديماً.
ويبلغ ارتفاع البوابة 20 متراً، وعرضها 6 أمتار، وهي مبنية من الجرانيت الأزرق الضارب إلى البياض، وتبدو عتبتها العليا على شكل عقد مخمس، وهو منقول عن مثيله الموجود في بلاد الشام ودمشق تحديداً، وسطح البوابة مزدان بشرفات على شكل فراشة، وكانت تعلوها منارة لكنها لم تعد موجودة، إضافة إلى ذلك تتميز البوابة بممر رباعي العقود وثلاثي الفسحات، وهي بديعة الهندسة، متناسقة الأجزاء، جميلة النقوش لا مثيل لها في كل مساجد الصين القديمة.
أما قاعة الصلاة، فقد بُنيت من الجرانيت الأبيض ومساحتها 600 متر مربع، وكان على قبتها وجدرانها الأربعة نقوش من الآيات القرآنية، وقد تهدمت قبة القاعة وسقفها بفعل زلزال ضرب المدينة عام 1607م، ولم يبق منها سوى 12 عموداً حجرياً و9 أعمدة من الرخام والقبلة، والمحراب مزخرف بآيات القرآن الكريم والنقوش العربية، ويبلغ طول الجدار الجنوبي للمسجد 23 متراً، وارتفاعه 6 أمتار، ويحتوي على 8 نوافذ كبيرة في المنتصف.
وبالعموم، يعتبر مسجد «الأصحاب» تحفة معمارية نادرة تضمها مدينة تشوانتشو خاصة والصين عامة، سواء من ناحية تاريخ بنائه أو تصميمه وحتى المواد المستخدمة في البناء.
رحلة حياة
صفية تشانغ ليانتشو، واحدة ممن ارتبطت حياتهم بمسجد «الأصحاب»، فقد عاشت أسرتها في مدينة تشوانتشو منذ مئات السنين، ويسكنون بالقرب من مسجد «الأصحاب»، وقد عملت كموظفة بالمسجد لأكثر من 30 عاماً، بسؤالها عن ذكرياتها في المدينة والمسجد قالت: تشوانتشو مدينة تاريخية حضارية شهيرة في كل عموم الصين، وهي مليئة بالآثار التاريخية الصينية والإسلامية، وقد وصلها العرب والمسلمون في وقت مبكر وما زالت آثارهم باقية لليوم.
أما بالنسبة لمسجد «الأصحاب» فتقول ليانتشو: لقد عملت بالمسجد لأكثر من 30 عاماً، حيث بدأت العمل به في العام 1994م، وكان المسجد يضم وقتها 6 موظفين، عملت لمدة 10 سنوات في مكتب بيع التذاكر للزوار غير المسلمين، وبقيت في هذه الوظيفة حتى عام 2004م، ثم عملت بعدها في المالية حتى عام 2010م، ومنذ ذلك الوقت حتى عام 2022م عملت في وظائف متنوعة منها شؤون الموظفين، والإحصاء، والمحفوظات، والتوعية، والضيافة.. إلخ.
ومنذ عام 2022م إلى اليوم تعمل ليانتشو في مجال الإرشاد السياحي للمدينة والمسجد، حيث تنظم الرحلات السياحية القادمة للمدينة وللمسجد.
تضيف: المسجد بالنسبة لي هو الوطن والحياة، منذ عملت به، لم أنقطع عنه يوماً، وعندما أستقبل الزوار وأطوف بهم جنبات المسجد ويرون حماستي وأنا أشرح لهم تاريخه، عادة ما يبادرونني بعبارات التحية والثناء، وعندما أرى السعادة في أعينهم، تفيض عيناي بالدموع.