لطالما قرأت عن مصطلح «أهل الذمة» في كتب تراثنا الفقهي وما يرتبط به من قضايا مثل حقوق الأقليات الدينية والجزية، وغيرها من القضايا التي لا يرد ذكرها في وسائل الإعلام التي يسيطر عليها علمانيون إلا في سياق سلبي باعتبارها مرادفاً لـ«التمييز السلبي» والظلم والقهر وعدم المساواة، وحينها كنت أتساءل: من أين أتت هذه الدعاية بهذا الربط؟ وإلى متى يتم تزييف الوعي الجمعي بهذا الأسلوب؟
ما يعنيني هنا ليس بيان فقدان هذه الوسائل الإعلامية لأي مصداقية في الحديث عن أي قيمة أخلاقية، بما فيها حقوق الإنسان، فتأييد هذه النوافذ للمظالم الإقليمية والعالمية أوضح من الشمس في رابعة النهار، بل يعنيني تسليط الضوء على منطقة معتمة من تراثنا يستهدف المزيفون والمرجفون ملء غياب الوعي بها عبر دعاية التشويه السوداء، وهو الأسلوب الذي لطالما دأبت وسائل الإعلام سالفة الذكر على تنفيذه.
عندما صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الحق، أعلن نظاماً أساسه العدل والرحمة، وهذا النظام لم يكن مجرد تنظير، بل كان تطبيقاً عملياً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومن تبعهم بإحسان، والقصد هنا ليس الزعم بأن تاريخنا صفحة بيضاء ليس فيها الحجاج ومن تبعه في الظلم والجور.
بل القصد تسليط الضوء على مدى فجاجة الدعاية العلمانية السوداء من واقع شرعنا وتراثنا وليس ببيان زيف وازدواجية أبواق الدعاية فقط، وهو ما أحاول تقديمه عبر جولة في حقيقة تعامل الإسلام مع الأقليات الدينية، خاصة أهل الذمة، وكيف يمكننا اليوم أن نستلهم من هذا التراث في واقعنا المعاصر بعد أن أثبت هؤلاء العلمانيون خيانتهم لكل المبادئ التي زعموا الدفاع عنها إبان محاولات الانتقال الديمقراطي في عديد الدول العربية والإسلامية.
والبدء مع أصل المصطلح «أهل الذمة»، من هم المقصودون به؟ هم غير المسلمين الذين يعيشون في الدولة المحكومة بشرع الإسلام تحت عهد وأمان الأغلبية المسلمة، ومصطلح «الذمة» نفسه يعكس هذا المعنى، فهو مشتق من العهد والحماية.
وتقوم مسؤوليات الأمة المسلمة في هذا العهد مقابل واجبات على أبناء أهل الكتاب من النصارى واليهود، على رأسها عدم موالاة أعداء الأمة المسلمة بأي صورة كانت، لا سيما الموالاة العسكرية، وهو ما التزم به المسلمون مع اليهود إبان العهد النبوي حتى نقض اليهود العهد ووالوا الأعداء المحاربين للمسلمين في المدينة.
ويتأسس مفهوم العلاقة قرآنياً بنص محكم في سورة «الممتحنة»، حيث يقول تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8)، فالواجب الشرعي ليس في كف الأذى، بل في البر والقسط بحق الأقليات الدينية التي التزمت بمفهوم العهد لأن الله يحب المقسطين.
ومقابل الالتزام بالعهد من جانب، ودفع مقابل الدفاع (الجزية) من جانب أهل الملل الأخرى، يكون الالتزام بالذمة من جانب المسلمين في مجتمع الدولة المسلمة، وهو واجب الحماية والدفاع دون تكلفة المشاركة بالنفس من جانب أبناء هذه الأقليات الدينية.
القراءة المتأملة لنصوص الفقه وتطبيقها التاريخي تكشف أن حقوق أهل الذمة لم تكن مجرد نصوص نظرية، بل كانت تطبيقًا عمليًا في الدولة الإسلامية، ولها تقعيدها في جميع المذاهب المعتبرة، فعلى سبيل المثال، كان لأهل الذمة الحق في الحياة والأمان، وهو ما تجلى بأعظم صوره في عهد عمر بن الخطاب عندما أعطى أهل القدس الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وهو العهد المعروف بـ«العهدة العمرية»، الذي يضرب به المثل حتى اليوم في التسامح الديني والالتزام الحقوقي.
هذا الحق كان مصاناً في وقت كانت أوروبا تعاني فيه من اضطهاد ديني شديد بين أبناء الملة الواحدة، وقد ترسخ في العهد العمري بوضوح بالغ، وتجسد في قصص عديدة روتها كتب التاريخ، من أشهرها قصة عمر بن الخطاب مع القبطي الذي اشتكى من ابن عمرو بن العاص، فحكم عمر لابن القبطي بأن يضرب ابن الأكرمين وأباه؛ لأن ابن الوالي لم يظلم النصراني المخالف له في الدين إلا بسلطان أبيه!
ماذا إذن عن الجزية؟ أليست تمييزاً ضد المخالفين في الدين عبر سن ضريبة مثقلة على كاهلهم كما تردد أبواق الدعاية العلمانية؟ ووجدت الإجابة من تراث المذاهب الأربعة.
فالحنفية ذهبوا إلى تقدير الجزية بنحو 48 درهماً عن العام كله للشخص المقتدر، و24 درهماً لمتوسط الحال، و12 درهماً فقط على من دون حد التوسط، أما المالكية، فحددوها بـ4 دنانير لأهل الاقتدار و40 درهماً لمتوسطي الحال، بينما ذهب الشافعية والحنابلة إلى ترك المقدار للاجتهاد والعرف، وهو ما ارتبط تاريخياً باجتهاد الحنفية والمالكية.
هذا يعني أن أبناء أهل الذمة كانوا يدفعون مقادير أقل من مقادير زكاة المال التي يدفعها المسلمون سنوياً، وعليه فإن النظرة المالية البحتة تجعل من هذا النظام تمييزاً إيجابياً لغير المسلم في الحقيقة! لكن دعاية شياطين الإنس جعلتها مثالاً للتمييز السلبي في واقع يحكمه الجهل، الذي هو عماد مثل هذه الدعايات.
كانت الجزية بديلاً عن الخدمة العسكرية، وبمقدار مالي أقل من مقدار الزكاة التي يدفعها المسلمون، لكن براعة العلماني العربي في ممارسة الدعاية السوداء لن تغطي حقائق الشرع والتاريخ، وبيان الحق هو واجبنا أمام الله ثم أمام أمتنا.
التاريخ مليء بحالات الظلم التي وقعت على مسلمين وغير مسلمين، وبعضها اتخذ طابعاً طائفياً بمقادير أقل كثيراً مما جرى في حروب الغرب الدينية، لكن مستلبي الهوية في أمتنا ينسبون ذلك إلى تراثنا الفقهي، بل وإلى ديننا العظيم لتبرير دعايتها الزائفة حول ضرورة فصل الدين عن الدولة والشأن العام برمته.
لقد أرسى ديننا نموذجاً فريداً في التعامل مع الأقليات الدينية، وحقوق أهل الذمة في الإسلام ليست مجرد شعارات، بل مبادئ تم تطبيقها عبر التاريخ، وأساس الدعاية العلمانية السوداء الجهل السائد بين الناس، وواجبنا مكافحة هذا الجهل ومواجهة المظالم الطائفية بميزان الإسلام العظيم، لا بالاحتكام إلى شرائع الأهواء؛ (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50).