من أولويات الحركة الإسلامية المعاصرة بعد سقوط الخلافة الإسلامية رسميًّا عام 1924م استعادة الخلافة الإسلامية ككيانٍ دوليٍّ للأمة، وقد قال محمد رشيد رضا في كتابه «الخلافة عن حكم الإمامة ونصب الخليفة»: أجمع سلف الأمة وأهل السُّنة وجمهور الطوائف الأخرى على أنَّ نَصْب الإمام -أي توليته على الأمَّة- واجبٌ على المسلمين شرعًا، لا عقلاً فقط.. ومن خصوصيات الإسلام أنه دينٌ عالميٌّ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصَّة، وبُعثت للنَّاس عامَّة»، وهو ما تبَنَّته الحركة الإسلامية.
كما قال الإمام حسن البنا: الإسلام نظامٌ شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فهو دولةٌ ووطن أو حكومةٌ وأمة، وهو خُلُقٌ وقوة أو رحمةٌ وعدالة، وهو ثقافةٌ وقانون أو علمٌ وقضاء، وهو مادةٌ وثروة أو كسبٌ وغِنى، وهو جهادٌ ودعوة أو جيشٌ وفكرة، كما هو عقيدةٌ صادقة وعبادةٌ صحيحة سواء بسواء، وهو ما يستدعي علاقةً بين الدِّين والدولة، وأنْ يكون لهذه الأمة كيانٌ سياسيٌّ دوليٌّ يسمَّى في الأدبيات التقليدية الخلافة.
فجعل حسن البنَّا مراحل الدعوة في ركن العمل ومراتبه عند الأخ المسلم: إصلاح النَّفس، وتكوين البيت المسلم، وإرشاد المجتمع، وتحرير الوطن، وإصلاح الحكومة، وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، وأستاذية العالم.
إلا أن هناك خلطاً بين شمولية الفهم للإسلام وشمولية التنظيم العامل له، فتشكَّلت تنظيماتٌ إسلاميةٌ أممية عابرةٌ للحدود والقارات، تجاوزت خصوصيات الدول الوطنية وسيادتها، وهو ما طرح إشكالية التوفيق بين عالمية الفكرة وقُطْرية التنظيم، وعالمية الدعوة وسيادة الدولة، ووضع مسألة البُعد الوطني للحركة الإسلامية على طاولة البحث والمساءلة؟
إذْ إن هناك أزمة بنيوية صاحبت نشأة الدول الوطنية الحديثة، التي تتمثَّل في:
1- أزمة الشَّرعية: فلم تتوقَّف أزمتها على أزمة شرعية الأنظمة السِّياسية التي تحكمها، بل تعدَّت إلى أزمة بنائها، فقد تشكَّلت على أساس الاستبداد والفساد والتزوير، فلم تحترم مبدئية الشورى وآلية الديمقراطية في تشكُّلها، ولم تقُمْ في بنائها على أساس الشرعية والمشروعية، وأنَّ أغلبها نال ذلك الاستقلال الملغَّم عن الدول الاستعمارية.
2- أزمة الهوية: فقد أصبحت لكلِّ دولةٍ وطنيةٍ حديثةٍ هويةٌ فرعيةٌ خاصةٌ بها، متجاوزةٌ الهوية القومية أو الدينية.
وبسبب أزمة الشرعية والهوية للدول الوطنية الحديثة، تأسَّست هذه الحركات الإسلامية وطرحت مشروعها الإصلاحي والتغييري، إلاَّ أنها اصطدمت بثنائية الانتماء للأمة ضمن الفكرة الإسلامية العالمية، والانتماء للوطن ضمن الحدود السِّيادية للدولة القُطْرية، وهو ما طرح إشكالية مركزية الدولة في فكر الحركة الإسلامية المعاصرة والبُعد الوطني لها، فقد تأسَّست على حُلْم إعادة الخلافة الإسلامية أيديولوجيًّا، لتجد نفسها أمام تحدِّي إقامة الدولة الإسلامية ضمن الحدود الجغرافية الموروثة عن الاستعمار الحديث.
3- البعد الوطني في فكر الحركة الإسلامية: هناك مِن الحركات الإسلامية مَن استوعب فكرُها البعدَ الوطني، إلا أن هناك مراهقة فكرية في التعامل مع الأوطان (الأقطار) بعضها، على اعتبار أنها حدودٌ جغرافيةٌ جسَّدت تقسيم الأمة بواسطة أعدائها (فرنسا وبريطانيا ومصادقة روسيا القيصرية على اتفاقية «سايكس – بيكو» عام 1916م)؛ وبالتالي يجب التمرُّد عليها، وعدم الإيمان بها، وهو ما يورِّط هذه الجماعات الإسلامية في خياراتٍ صدامية، تدمِّر المشروع الإسلامي ذاتَه، حتى قال بعضهم في تعبيرٍ صارخٍ عن أزمةٍ عَقَدية: الوطن وَثَن، وهو ما يفرض معالجة مسألة العلاقة بين الدِّين والدولة، وهي الإشكالية التي لم تكن مطروحة قبل السُّقوط الرسمي للخلافة الإسلامية عام 1924م، فثَارَ الجدلُ حول حاجة الإسلام إلى الدولة، وحاجة الأمة إلى الخلافة كضرورةٍ من أجل الاستئناف الحضاري من جديد.
وقد تأسَّس البُعد الوطني في فكر الحركة الإسلامية المعاصرة على عدَّةِ اعتباراتٍ شرعية، منها:
1- العلاقة الفطرية بين المسلم والأرض: فالإسلام دين الفطرة، ولقد نطق ذلك الشَّاعر العربيُّ الأصيل بها، فقال: بلادي وإنْ جَارَت عليَّ عزيزةٌ وأهلي وإنْ ضَنُّوا عليَّ كِرام
ولقد تُرجمت تلك المشاعر القلبية من النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أنْ أُكرِه على الخروج من مكة، فالتفت إليها وعيْنَاه تفيض من الدَّمع، حُزنًا على فراقها، فقال: «واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إليَّ، ولولا أنَّ أَهْلَكِ أخرَجوني منكِ ما خَرجتُ»، وكانت الهجرة إلى المدينة المنوَّرة في السَّنة الـ13 للبعثة -كذلك- رحلة للبحث عن وطنٍ يحتضن الفكرة الإسلامية والمشروع الحضاري للأمَّة الوليدة.
وقد تعلَّق الأنبياء بأوطانهم، ولا أصْدَق على ذلك من الدُّعاء لها، مثلما خلَّد القرآن عن سيِّدنا إبراهيم عليه السلام منهجه في بُعده الوطني بقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (البقرة: 126)، وارتبط المشروع العقائدي للمسلم بالتمكين له في الأرض، كما قال تعالى: (ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّٰاهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَاةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ، وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ) (الحج: 41).
2- الإيمان بأخوَّة الوطن: فصحيحٌ أنه مِن أرْقَى صور الأخوَّة، هي: أخوَّة الدِّين، في مثل قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، إلا أن هناك أخوة أخرى خارج الأخوَّة الدِّينية، وهي الأخوَّة في الوَطن (الجغرافيا)، مثل قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ {105} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ) (الشعراء: 106)، فأُخوَّة نوحٍ لقومه هنا ليست أخوةً دينية، بل هي أخوَّةٌ وطنية، وهي أخوةٌ قوميةٌ في الجغرافيا الواحدة.
بل رتَّب الإسلام على الجوار الجغرافي حقوقًا شرعيةً، مهما كان الدِّينُ أو الجنسُ أو اللغة، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ؛ فَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ فَجَارٌ مُشْرِكٌ لَا رَحِمَ لَهُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقَّانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ، لَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الرَّحِمِ».
3- الشَّهادة في سبيل الله من أجل الوطن: ورغم أن هناك مِن الإسلاميين مَن يتحفَّظ على الوطن والوطنية، وكأنهما مسكونان بحمولاتٍ علمانيةٍ لا علاقة لها بالدِّين، فإنَّ الحقيقة عكس ذلك، ولا أدل على ذلك مِن معيار الولاء على أساس الدِّين والوطن، في مثل قوله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ) (الممتحنة: 9)، فمن الواجبات العَقَدية الدِّفاع عن الوطن، كما قال تعالى عن مبرِّرات القتال في سبيل الله: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا) (البقرة: 246)، وأنَّ الموت من أجل ذلك شهادةٌ في سبيل الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ».
وقد أوْلى رواد الصَّحوة الإسلامية المعاصرة أهميةً بالغة لسؤال الانتماء إلى الوطن، فهذا عبدالحميد بن باديس (1889 – 1940م) قد أصدر جريدة «المنتقد» عام 1925م، وجعل شعارها: الحقُّ فوق كلِّ أحد، والوطن قبل كلِّ شيء، وقال عن الخصوصية الوطنية للجزائر، التي تختلف تمامًا عن فرنسا: إنَّ هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت.
وكان الشعار المدوِّي والصَّارخ للجمعية (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) بما يحمله من أبعادٍ وطنية: الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا، وأنَّ خيرَ ما جسَّد وطنية ابن باديس هو مقالٌ صدَّره بسؤال: لمن أعيش؟ فقال مجيبًا: أعيشُ للإسلام والجزائر، كنموذجٍ لانتمائه الوطني.
ونجد من رواد الحركة الإسلامية المعاصرة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، وقد أبان عن بُعده الوطني في كتابه «الجزائر المنشودة.. المعادلة المفقودة»: الإسلام، الوطنية، والديمقراطية، فتحدَّث في الفصل الرابع منه عن «الوطنية»، معتبرًا أنَّ المشروع السِّياسي الوطني قام على مبدأ الاستقلال التَّام والكامل، وعلى السَّعي لبناء الدولة الوطنية ذات السِّيادة، وأنَّ السِّمةَ الأساسية التي طبعت التيار الوطني المحرِّر للبلاد قائمةٌ على المستوى الأيديولوجي وعلى المستوى العملي والنِّضالي، هي: الطابع الإسلامي، في جمْعٍ بين البُعد الوطني والهوية الإسلامية للدولة.
لقد كان فكرُ الحركات الإسلامية المعاصرة ومسارُها متفاعلاً في كثيرٍ من عطاءاتها مع مشروع الدولة الوطنية الحديثة، إذ يحمل مشروعًا لتحرير الأقطار من كلِّ أشكال الاستعمار السِّياسي والاقتصادي والثقافي، وتنميتها في إطار هويتها الطبيعية، وتقوية مناعتها وإكسابها القدرة على التموقع المحترم في الخريطة الدولية.
وإذا كانت الحركات الإسلامية قد حسَمَت في بُعدها الوطني من النَّاحية الفكرية والمنهجية، فإنها بحاجة إلى تعزيز ذلك المسار الحضاري أكثر، وذلك يتطلَّب وَعْيًا متجدِّدًا بطبيعة التَّحدِّيات الوطنية، وانخراطًا أكبر في مسارات الإحياء والتنمية لأقطارها، وهو ما يُعجِّل بنهضتها كأمَّةٍ واحدةٍ من جديد.