كان ميلاد السيد المسيح معجزة إلهية كبرى خارقة للنواميس المعتادة، لكن فهم هذه المعجزة يقتضي النظر في سياقها الكلي، فقد مضت سُنة الله في بني إسرائيل أن تتابع فيهم النبوات، وكانت النبوة في تلك الأمة متوارثة، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (الحديد: 26).
ولم يفكر بنو إسرائيل يوماً في إمكانية أن ترفع منهم هذه النبوة، حتى وصلوا إلى منعطف من تاريخهم بدا فيه المشهد مختلفاً، فزكريا عليه السلام قد بلغ من الكبر عتياً وامرأته -وهي ابنة عمران- عاقر لا تنجب، وليس في زمنهم ذلك نبي غير زكريا؛ ما يعني أن العقل الإسرائيلي وجد نفسه لأول مرة أمام احتمال انقطاع النبوة.
بيد أن شبح الانقطاع لم يكن على مستوى النبوة وحدها، فعمران وهو آخر الأحبار الكبار قد اشتد عليه المرض ولم يرزق إلا ببنت واحدة هي زوجة زكريا؛ ما يعني أن مقام الحبارة هو الآخر مهدد بالانقطاع!
وفي هذه الأجواء الساخنة تتفاجأ امرأة عمران المرأة العجوز بشيء يتحرك في أحشائها وتتضح الصورة تدريجياً؛ إنه حمل جديد! حمل والمرأة عجوز، وبعلها شيخ كبير قد أقعده المرض.
وأثناء حملها نذرت امرأة عمران ما في بطنها لله محرراً، وتوقعت كما توقع كثيرون من بني إسرائيل أن تنتهي معجزة حملها بميلاد النبي الذي ينتظره بنو إسرائيل.
ويكتمل ذلك الحمل وتضع المرأة أنثى على غير توقعها، ويطيش الأمل، وتعوذ امرأة عمران بنتها وذريتها من الشيطان الرجيم؛ لعلها أمَّلت أن تكون النبوة في ذرية هذه البنت التي ولدت على غير المعتاد من أحوال البشر.
ولم تكن هذه هي الآية الوحيدة التي سبقت ميلاد المسيح، فقد أذن الله لمريم أن تجاور في بيت المقدس كما يجاور الأحبار الكبار، وكان زكريا الذي تولى كفالتها بعد موت عمران يحمل إليها وهي صبية طعامها؛ فيجد عندها كل يوم طعاماً لا يوجد مثله في بيت المقدس، وكلما سألها قالت: (هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37)!
وكان زكريا بغير شك يخبر بني إسرائيل بهذه الآيات المتكررة التي يراها على يد مريم، وذات مرة انشرح صدر زكريا وانطلق لسانه بالدعاء وهو في محراب مريم ينظر إلى ما عندها من رزق الله؛ فهتف من أعماقه: (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) (آل عمران: 38)، واستجاب الله لزكريا وبشَّرته الملائكة بيحيى، وحملت امرأته العاقر في آية جديدة شهدتها عيون بني إسرائيل.
ووُلد يحيى عليه السلام، وأخبرت الملائكة زكريا أن وظيفة يحيى هي التصديق بكلمة الله؛ أي بالنبي الذي يخلقه الله بكلمة كن فيكون، وأن يحيى سيكون سيداً زعيماً مهيباً مطاعاً في بني إسرائيل، وسيكون حصوراً لا يتزوج ولا ينجب، ونبياً من الصالحين، وهنا يتضح جلياً أن يحيى يمثل الجيل الأخير من النبوات «الإسرائيلية».
ولم يمض زمان طويل حتى كانت الآية الكبرى؛ مريم العذراء البتول تحمل من غير زواج ولا امتزاج، يبعث الله جبريل عليه السلام فينفخ فيها بقدرة الله وكلمة الله روحاً مباركة طيبة؛ ليكون عيسى ابن مريم النبي الأخير والفرصة الأخيرة لبني إسرائيل.
وقد أراد الله عز وجل أن تكون هذه النبوة الأخيرة مصحوبة بهذا الحشد من الآيات بدءاً من ميلاد مريم، ومروراً بما كانت ترزق من الطعام، ثم ميلاد يحيى، ثم بالمعجزة الكبرى «ميلاد المسيح»، لعل هذه الآيات المتتالية تكون كافية لإيقاف بني إسرائيل من غفلتهم، وعندما أتت به قومها تحمله استنكر عليها بنو إسرائيل واتهموها بالزنى؛ لينطق عيسى وهو في المهد: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً {30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً {31} وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً {32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) (مريم).
وقد أيد الله عيسى عليه السلام بالآيات الباهرات؛ فكان يبرئ الأعمى والأكمه والأبرص بإذن الله، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخلق لبني إسرائيل من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم بإذن الله.
وهذه الآيات التي سبقت ميلاد عيسى وتلك التي تبعت ميلاده الشريف كانت في حقيقة الأمر اختباراً قاسياً لبني إسرائيل، كانت أشبه بجرعة العلاج المكثفة التي تمثل الأمل الأخير في إنقاذ المريض المحتضر، فإما أن يستجيب الجسم ويقوم من مرقده، وإما أن تضيع الفرصة الأخيرة!
وللآيات الخارقة في منهج الله حكمة يقيم بها الحجة على عباده، فمن قبلها وأذعن لها وزادته إيماناً نجا، ومن لم يؤمن بها استوجب على نفسه العقاب الأليم، وتحولت الآيات في حقه من نعمة إلى نقمة، ومن منة إلى عقوبة!
وهو الذي جرى مع بني إسرائيل، فرُفع السيد المسيح، وتسربت الفرصة الأخيرة من بين أصابعهم! وقضى الله عليهم ألا نبوة بعد المسيح، وألا كتاب بعد الإنجيل، وجرى على الأمة الإسرائيلية قانون الاستبدال؛ فتخبطت بعدها في متاهات الضلال إلى يوم الناس هذا، وتلك طبيعة الآيات الخارقة فهي خافضة رافعة؛ (قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ) (المائدة: 115).
صلى الله وسلم على سيدنا المسيح، وأعاذنا الله ممن ضلوا فيه مرتين؛ حين زعموا أنه ابن الله! وحين ارتكبوا باسمه كل الموبقات والمنكرات!
وأهل الإيمان أولى بالسيد المسيح من أهل الضلال والفساد معاً.