تجربة قاسية تلك التي تتعرض لها الأسرة المسلمة حين يتعرض أحد أبنائها للاعتقال لمجرد إيمانه بمعتقد أو رأي لا يتوافق معه النظام الحاكم.
ويعتقد البعض أن تجربة السجن سوف تخرج بالضرورة أبطالاً يبنون المستقبل ويصنعون الأمجاد، في حين أن الحقيقة غير ذلك تماماً، وقليل أولئك الذين يخرجون أفضل مما دخلوا، في حال إذا توافرت لهم ظروف اعتقال أفضل تسمح لهم بممارسة بعض الحرية الفكرية داخل الأسوار، وإن توفرت تلك الظروف فهي نادرة ولفترات محددة، كما حدث في تسعينيات القرن الماضي حيث انتشرت الفكرة الإسلامية في الجامعات والنقابات المهنية لتتحول المعتقلات لمعسكرات تربية، فيخرج الشاب من معتقله بعد عدة أشهر وقد صقلته التجربة وقد حفظ كتاب الله واكتسب الكثير من الخبرة الحياتية والدعوية.
وفي ذات الوقت، كانت هناك دولة كسورية، على سبيل المثال، معتقلاتها لا تعرف الرحمة، ومن يدخلها فهو مفقود على أي حال، فمن يخرج، يكون قد فقد عقله، أو أصيب بأمراض نفسية تستغرق سنوات لعلاجها، هذا إن هو خرج من الأساس، وما صيدنايا عنا ببعيد.
بعض التغيرات النفسية التي تطرأ على المعتقلين بعد الإفراج عنهم
بالاستماع لذوي المعتقلين الذين قضوا مدد أحكامهم ثم خرجوا، وجدنا أن هناك مشكلات نفسية هائلة تقف حائلاً بينهم وبين مجتمعاتهم وذويهم، وقد أثرت سنوات السجن بهم وغيّرت طبائعهم وقد كانوا يوماً من أكثر الناس بهجة ومودة ورحمة وتفاؤلاً وتواصلاً مع من حولهم، فمنهم من أصابه الخوف ممن حوله، وانعدمت الثقة بينه وبينهم وإن حاول إظهار غير تلك المشاعر، يعرض عن الناس ويخشى لقاءهم، يسفه من أي فكر حتى ما كان يعتقده وأوذي بسببه، يفضل العزلة عن الاختلاط مع الناس.
ومنهم من كان سخياً ذا مروءة قبل سجنه، فإذا به وقد خرج ممسكاً، يخشى الإنفاق كي لا ينفد المال فلا يدري من أين ينفق أو يكمل أيامه، يقتر على من حوله، يفكر في رزق الغد من أين يأتي، بل رأيت منهم من يعد أرغفة الخبز في بيته ليرى كم يوماً ستكفي، ورأيت من يحتفظ ببقايا الطعام الفاسد فربما يأتي يوم لا يجد فيه طعاماً صالحاً فيتناول هذا الذي فسد مضطراً! ثم هو يحاول تطبيق قوانين السجن على أهل بيته والمقربين منه؛ حيث النوم والاستيقاظ في وقت محدد، والطعام بقدر محدد!
ومن أهم الآثار التي يتركها الاعتقال على صاحبه حساسية الخوف من كل شيء، من صوت الهاتف، أو رنين جرس الباب، أو أحد ينادي عليه بصوت مرتفع ولو قليلاً، أو مناقشة في أمور عامة، أو قضية ما، تجده شارداً خائفاً متحفظاً، وكأن شخصيته قد تبدلت تماماً، فليس هو الإنسان الناضج الشجاع المقدام المفكر الذي عرفناه قبلاً، ويزداد الأمر سوءاً إذا كان المعتقل قد تعرض لتعذيب نفسي أو حسي أثناء فترة اعتقاله، فلسوف تزداد المشكلة تعقيداً.
طرق استعادة المعتقل ودمجه بمجتمعه
يقع العبء الأول لاستعادة المعتل المفرج عنه على أسرته والمقربين منه، والخطوة الأولى عند هؤلاء أن يعلموا أنها مرحلة صعبة من حياته وسوف تمر، وأن كل تلك الأخلاقيات المستحدثة إنما هي أعراض المرض وليست المرض نفسه، وأن عليهم مواجهته بحقيقة المرض ومواجهته، وأن السجن لم يكن عقاباً، وإنما كان فترة اختبار من الله عز وجل ليضعه في مكانة أعلى، وأن لديه مشكلة بالفعل، لكنه قادر على أن يتعافى منها بقدرة الله ومعيته.
في بعض الأحيان لن تفيد المحاولات الأسرية أو تجدي، ويكون الشاب في حاجة لتدخل علاجي نفسي، وفي هذه الحالة يجب إقناعه بحاجته للقاء مع الطبيب مع توقع رفضه التام في البداية، لكن بالحنو والمصارحة وإبداء الدعم النفسي مع اتخاذ عدة إجراءات ضرورية في طريق استعادته، وتعد تلك الإجراءات السبيل الوحيد لإعادته لطبيعته قبل فترة الاعتقال الأليم وفقده لحريته، ومن هذه الإجراءات:
1- مساعدته في مواجهة التحديات التي تقابله بعد الخروج من السجن، وهي تحديات عاطفية واجتماعية ومادية أيضاً، فعلى مستوى الأسرة يجب أن تتسم علاقته بزوجته بالتفهم المفتوح لكل ما حدث له، يجب عليها أن تعي أصل المشكلة وتتصرف بتوازن يكون صعباً خاصة في البداية، لأنها هي نفسها تعرضت لتجربة قاسية بفقدان الزوج وتحمل مسؤولية مضاعفة في غيابه وتحمل زيارات لا قبل للأسرة بها في معظم الأحيان، والتعرض لمضايقات تترك في نفسها أثراً سلبياً، ثم هي تنتظر تعويضاً معنوياً بعد خروجه، فإذا بها تفاجأ بأنه في حاجة للمساعدة أكثر منها، وعليها أن تتحمل الوضع ولو بصورة مؤقتة، فمساندتها له سوف يكون له الأثر الأكبر عليه باعتباره الأقرب إليه ومشاركته في قضيته ورسالته.
عليها أن تعيد إليه الثقة في نفسه بالحب حيناً، والصرامة في تقوية ظهره حيناً آخر، وعليها طمأنته من ناحية الرزق، وأن من ضمن لهم رزقهم وهو بين الجدران، سوف يرزقهم وهو خارجها، حديث في الحب، وحديث في العقيدة، وحديث في تحمل المسؤولية حتى ينتبه ويستعيد ذاته، سواء بمن حوله، أو بمساعدة طبية قد يحتاج إليها.
2- إدماج الشاب في عمل ما، وحبذا لو كان عملاً بعيداً، ومكاناً آخر غير الذي كان يعمل به لتعود إليه مشاعر الأمان تدريجياً وحتى تعود إليه كاملة.
3- إذا كان المعتقل طالباً أو في مقتبل العمر، فعلى المحيطين به تشجيعه على إكمال مراحله التعليمية مهما أخرته فترة الاعتقال حتى ولو مرت سنوات، وتشجيعه على البدء من جديد، وإذا كان هناك خوف ما عليه في محيطه الذي يعيش فيه، فيجب مساعدته على ترك المكان بالسفر، فلا معنى أن نعالج آثار سجنه، بينما سجن جديد في انتظاره.
4- إطْلاع الشاب على تجارب معتقلين آخرين، كيف خرجوا من معتقلاتهم أبطالاً فاتحين قادوا أمتهم في أصعب المواقف وأشدها قسوة، ثبتوا وخرجوا أصلب عوداً وهم في التاريخ كثر، ولن يكون آخرهم الشهيد يحيي السنوار الذي استطاع بعد أكثر من عقدين في المعتقل أن يقود جيشاً في مدينة صغيرة لينتصر على أعتى جيش في المنطقة وهو في سن الستين، ثم هو يحارب جنباً إلى جنب مع جنوده، ثم يرتقي شهيداً بشرف لا يدانيه شرف، أعجز أعداءه، وأسعد محبيه، ليتخذه ربه شهيداً كما أراد، نحسبه على ذلك.
5- على العائلة أن تصبر كثيراً ولا تتوقع أن يكون العلاج سريعاً، فلا أحد يدري كمّ العنف الذي تعرض له المعتقل، وكمّ الإهانات التي تلقاها، وكل ذلك مخزون داخل كيانه ولا خلاص منه إلا بالصبر الطويل.
6- على المجتمع كله أن ينهض ويستنفر للخلاص من كافة سجون الرأي والاعتقالات غير الآدمية وتحرير أنفسهم، لأن وجود الطغاة يعني بالضرورة استمرار واستنساخ آلاف التجارب والنسخ من المقهورين الذين لا يستطيعون بناء أمة، أو استعادة مجدها، فالحل ليس في علاج فرد واحد، وإنما الحل الجذري في استعادة أمجاد الأمة بإنقاذ أبنائها، فالأبطال ليس مكانهم السجون، وإنما مكانهم في مقدمة الأمة يقودونها بشرف وكرامة.