كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي عليه، ما لفت أنظار أهل الكتاب، فقد وجدوا من خلاله بغيتهم، فقد تحققت بعثته، وتعددت منافعه نحوهم بوجوده، وتمثلت هذه المنافع في صورٍ، منها:
أولاً: التيقن من صدق بعثته ورسالته:
كان الأنبياء السابقون قد بشروا بمبعث رسول آخر الزمان، وذكروا أوصافه في كتبهم، فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم صدّق بعض أهل الكتاب نبوته ورسالته، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي أخبر السيدة خديجة بما حدث معه، فما كان منها إلا أنها انْطَلَقَتْ إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ.
فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ (طاهر)، وَاَلَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ، لَئِنْ كُنْتِ صَدَّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ (الوحي) الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَقُولِي لَهُ: فَلْيَثْبُتْ.
فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ، صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَقَالَ: يَا بن أَخِي، أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ وَرَقَةُ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي جَاءَ مُوسَى وَلَتُكَذَّبَنَّهُ وَلَتُؤْذَيَنَّهُ وَلَتُخْرَجَنَّهُ وَلَتُقَاتَلَنَّهُ، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنَّ اللَّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ، ثُمَّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ، فَقَبَّلَ يَافُوخَهُ (وسط رأسه)، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ إلَى مَنْزِلِهِ(1).
فقد اتضح من كلام ورقة، وهو رجل من أهل الكتاب، الثقة الكاملة واليقين الكاشف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي آخر الزمان، وأن الوحي الذي نزل عليه هو الوحي الذي نزل على الأنبياء السابقين.
ثانياً: دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام:
سعادة المرء ونجاته في اتباعه رسل الله عليهم السلام، ولهذا دعا رسول الله أهل الكتاب إلى الإسلام، لينالوا السعادة في الدنيا والنجاة يوم القيامة.
فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ»، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ (مكان قراءة التورة)، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُمْ: «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا»، فَقَالُوا: قَدْ بلَّغت يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ: «ذَلِكَ أُرِيدُ»، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ، فَقَالُوا: قَدْ بلَّغت يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فقال: «ذلك أريد»، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ.
فالنبي يقصد بقوله: «ذلك أريد»؛ أي: هذا ما أريد بقولي أسلموا: أن تعترفوا أنني بلَّغتكم، حتى تسقط عني المسؤولية، وتقوم عليكم الحجة، فإن أسلموا سعدوا ونجوا، وإلا فليتحملوا مسؤوليتهم أمام الله عز وجل.
وروى البخاري عن أنس قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: «أسلم»، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار».
ثالثاً: الحماية من الأذى:
تنوعت صور الحماية التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب على النحو التالي:
1- حماية الدماء: وذلك من خلال قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما».
وَالْحَدِيثَ اشْتَمَلَ عَلَى تَشْدِيدِ الْوَعِيدِ عَلَى قَاتِلِ الْمُعَاهَدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ وَعَدَمِ خُرُوجِهِ عَنْهَا وَتَحْرِيمِ الْجَنَّةِ عَلَيْهِ(2).
بهذا انتفع أهل الكتاب برسول الله صلى الله عليه وسلم حين صان دماءهم بتحريم الجنة على آذاهم.
2- حماية الأموال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على دماء أهل الكتاب؛ فقد أوجب الحفاظ على أموالهم.
روى أحمد عن خالد بن الوليد قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة «خيبر»، فأسرع الناس في حظائر يهود، فأمرني أن أنادي الصلاة جامعة، ولا يدخل الجنة إلا مسلم ثم قال: «أيها الناس، إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود، ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم لحوم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير».
وتعدد النهي عن أخذ أموال أهل الكتاب بغير حق، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسيم فيما رواه أحمد: «ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة من مال معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها»؛ واللقطة: بضم اللام وفتح القاف، ما يلتقط مما ضاع من شخص بسقوط أو غفلة وتخصيصه (أي: المعاهد) لزيادة الاهتمام(3).
3- حماية الأعراض: روى أبو داود أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ ومعنى انتقصه عابه لما في الأساس، استنقصه وانتقصه: عابه(4).
كما حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتهام الذمي بما ليس فيه، حيث روى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قذف ذمياً حُدّ له يوم القيامة بسياط من نار»، فكما صان رسول الله عرض المسلم من الإساءة إليه في حضرته وغيبته، تعامل مع غير المسلمين بنفس المنهج الذي تعامل به مع المسلم.
رابعاً: حسن المعاملة:
تنوعت معاملة النبي صلى الله عليه وسلم الحسنة مع أهل الكتاب؛ ما دل على كمال بره بهم وحسن خلقه معهم، تجلى ذلك فيما يلي:
– زيارة المرضى: روى البيهقي عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد رجلاً على غير الإسلام لم يجلس عنده وقال: «كيف أنت يا يهودي؟»، «كيف أنت يا نصراني؟»، بدينه الذي هو عليه.
– البيع والشراء: روى ابن ماجه عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل، وأرهنه درعه.
3- قبول الهدية من أهل الكتاب: روى البخاري عن أبي حميد قال: أهدى ملك أيلة النبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء، وكساه برداً، وكتب له ببحرهم، فالمعاملة الحسنة تدل على التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وإن اختلفت أديانهم.
خامساً: حرية المعتقدات والشعائر:
لم يُكرِه النبي صلى الله عليه وسلم أحداً على الدخول في الإسلام، وكان ذلك واضحاً عندما كَانَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ ابْنَانِ فَتَنَصَّرَا قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَدِمَا الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ مِنَ النَّصَارَى يَحْمِلُونَ الطَّعَامَ فَأَتَاهُمَا أَبُوهُمَا فَلَزِمَهُمَا وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدَعُكُمَا حَتَّى تُسْلِمَا، فَأَبَيَا أَنْ يُسْلِمَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أيدخل بعض النَّارَ وَأَنَا أَنْظُرُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256) فَخَلَّى سَبِيلَهُمَا(5).
_______________________
(1) سيرة بن هشام (1/ 283).
(2) نيل الأوطار، الشوكاني (7/ 19)
(3) عون المعبود شرح سنن أبي داود، (19/ 198).
(4) المرجع السابق (8/ 211).
(5) أسباب النزول، الواحدي، ص 83.