لا ينبغي للراعي أن يتهم الناس بغير بيّنة، أو يفترض أنهم متهمون حتى تثبت براءتهم، بل الصواب أنهم بريؤون حتى تثبت إدانتهم؛ لذا لا يجوز له أن يتوغل في معرفة المستور من أحوال الناس، إذا كان ذلك غير متسبب في خطر يلحق بهم، فإذا كان حال المجتمع يظهر فيه الصلاح، لكن أحد الناس يرتكب بعض المخالفات بينه وبين نفسه، ولا يدعو غيره إليها، ولا يؤثر فعله هذا في الناس شيئاً؛ فإن الأولى بمن يعلم ذلك منه أن يدعوه إلى ترك ما هو عليه، دون أن يعلن في الناس فعله أو يرفع إلى الحاكم أمره.
روى أحمد بسند صحيح عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ، أَنَّ هَزَّالًا كَانَ اسْتَأْجَرَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا: فَاطِمَةُ، وَكَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لَهُمْ، وَإِنَّ مَاعِزًا وَقَعَ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَ هَزَّالًا، فَخَدَعَهُ، فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ، عَسَى أَنْ يَنْزِلَ فِيكَ قُرْآنٌ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَ، فَلَمَّا عَضَّتْهُ مَسُّ الْحِجَارَةِ، انْطَلَقَ يَسْعَى، فَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ بِلَحْيِ جَزُورٍ، أَوْ سَاقِ بَعِيرٍ، فَضَرَبَهُ بِهِ، فَصَرَعَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلَكَ يَا هَزَّالُ، لَوْ كُنْتَ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ، كَانَ خَيْرًا لَكَ».
وأما نفع الستر للناس فيظهر في عدم شيوع الفاحشة وظهور المنكرات بينهم، فلا يستخفون بها بسبب وقوعها وجرأة البعض على إتيانها، أما إذا تتبع الراعي عورات الناس؛ أي قبائح أفعالهم التي يحرصون على سترها ولا يؤذون بها غيرهم، فإن ذلك يؤدي إلى أخطار عظيمة وعواقب وخيمة، منها ما يأتي:
1- نشر الشر والفساد بين الناس:
إذا كان المخالف أو العاصي مستوراً؛ فإنه يبقى حريصاً على ستر نفسه، حتى يتوب أو يقضي الله فيه أمره، فإذا تتبعه أحد الناس أو الحاكم، وفضح أمره بين الناس، فإنه لم يعد لديه ما يخفيه أو يبكي عليه، وهنا يعلن معصيته، لأنه لم يعد يأبه بانتقاد الناس أو سوء نظرتهم إليه، وهنا يكون المتتبع سبباً من أسباب جرأة العاصي على العلانية بهذا الشر ونشره بين الناس.
ولعل هذا المعنى يوضح الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو داود، وابن حبان عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمُ»، وفي رواية عند الطبراني في «المعجم الأوسط»، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِمَامُ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي الرَّعِيَّةِ أَفْسَدَهُمْ»؛ أي كان سبباً في فسادهم؛ أي: حِرْصُك على إظْهارِ مَعايبِهم الخَفيَّةِ ومواجهَتِهم بها يَزيدُ الأمْرَ فَسادًا وليس العَكسُ، فما دام المُجتمَعُ ظاهِرُه الحُسْنُ ويرَبِّي النَّشأَ على ذلك، فإن إظهار نواقِصِ الواحِدِ والاثنَينِ تَرويجًا وتَحرِيضًا للباقي، وإيقاظًا لتلك المَعاصي والآثامِ.
وفي ضوء هذا المعنى أيضاً يمكن أن نفهم حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه مسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ»، قَالَ الراوي: لَا أَدْرِي أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ، فإن كانت بالرفع «أَهْلَكُهُمْ»، فالمعنى هو أول الهالكين، وإن كانت بالنصب «أَهْلَكَهُمْ»، فالمعنى أنه السبب في هلاكهم، لأنه فضح أمرهم.
2- التماس الريبة في الرعية نوع من التجسس:
قال الغزالي في «الإحياء»: مَعْنَى التَّجَسُّسِ: أَلا يَتْرُكَ عِبَادَ اللَّهِ تَحْتَ سِتْرِ اللَّهِ، فَيَتَوَصَّلُ إِلَى الِاطِّلَاعِ وَهَتْكِ السِّتْرِ، حَتَّى يَنْكَشِفَ لَهُ مَا لَوْ كَانَ مَسْتُورًا عَنْهُ كَانَ أَسْلَمَ لِقَلْبِهِ ودينه، وقد نهى الله تعالى عن التجسس، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (الحجرات: 12).
وتوعد النبي صلى الله عليه وسلم من تجسس على الناس وتتبع عوراتهم بالفضيحة، حيث روى الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ».
أما الراعي فإنه يحرص على عدم التجسس على الناس، حتى إذا رُفِع إليه أمرهم؛ فإنه يجب أن يقضي فيه، حتى لا يستهين الناس بالمعصية أو يتجرؤوا عليها، ففي سنن أبي داود عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقِيلَ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: «إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْ بِهِ»، فهذا الأمْرُ عامٌّ، فلا يَنبَغي لأحدٍ من عامَّةِ النَّاسِ ولا مِنَ الأُمَراءِ -وهم أَوْلَى بهذا- أن يتتَبَّعَ عوْراتِ النَّاسِ المستورَةِ.
3- فقدان الثقة بين الراعي والرعية:
إن انشغال الراعي بتتبع قبائح أفعال الناس يوغِر صدره، ويجعله يسيء الظن بهم، ويفقد احترامه لهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ما من شأنه أن يفسد العلاقة بين الناس، ومن ذلك ما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا».
كما أن تتبع الراعي عورات رعيته يجعلهم يعيشون في خوف دائم من التجسس، وحقد وغل على هذا الراعي، فيزدادون في الاختفاء والسرية منه، وقد يدفعهم هذا إلى تدبير المكائد والمؤامرات، من أجل الانتقام من الراعي وزعزعة حكمه، وبهذا يتعكر صفو الحياة وتفقد الثقة بين الراعي والرعية؛ فعلى الراعي أن يتحلى بحسن الظن في رعيته، بدلاً من التركيز على أخطائهم وتتبع عوراتهم، وفي الوقت نفسه إذا رفع إليه أمر أحدهم فإنه يأخذ بشأنه الإجراءات الحازمة التي تحميه وتحمي المجتمع من خطره وشره.
4- زعزعة الاستقرار الاجتماعي:
لا يستطيع الراعي أن يتابع جميع أفراد رعيته في خلواتهم أو فيما يحرصون فيه على الاختفاء، فإذا حرص الراعي على التتبع فإنه يجند أفراداً آخرين لمساعدته في ذلك، وهنا يدفع الناس إلى التجسس على بعضهم؛ ما يؤدي إلى زعزعة الثقة بينهم، ونشر التوتر في العلاقات، ومحاولة الانتقام من بعضهم، لمصالح خاصة قد لا يكون لها علاقة بما يريده الراعي، وفي فتح الباب أمام تتبع الناس بعضهم بعضاً إطلاق للوشاية وإشعال نار الفتنة في المجتمع؛ ما يَحْرِم الراعي والرعية من الأمن والأمان والسلم والسلام.