تشكل عملية بناء الذات وتحديث المهارات واحدة من أكبر التحديات التي تواجه أمتنا العربية، حيث تشتت الطرق والتفاعلات الاجتماعية، والتعليمية، في التأثير على الشخصية العربية، وحملتها بكل سلبيات المجتمع وميراثه من عادات وتقاليد أفسدت على الكثير منا الأخذ بأسباب العلم من ناحية، والفهم الصحيح للدين كطاقة إيجابية وروحية عظمى لدفع الإنسان من ناحية أخرى.
وتدور مجتمعاتنا منذ مئات السنين بين محاولات لجذبها نحو استنساخ أسوأ ما في الحضارة الغربية، وبين التعارك والتشاكس مع كل منتجات هذه الحضارة لنفقد إيجابياتها، ونخسر اللحاق بركب التقدم.
وعلى الرغم من كل ذلك، يبقى أن هناك وصفات علمية، أجمع الخبراء عليها، لبناء الذات وتحديث مهاراتها، دون الدخول في تقاطعات فلسفية وخلافات تعطل المجتمع، ومن بين ما أجمع عليه العلماء، ومن بينها:
– التفكير الإيجابي:
التفكير الإيجابي توجه ذهني ينبع من نظرة متفائلة للحياة، حيث يركز الفرد على الفرص والإمكانات بدلًا من العقبات والتحديات، وهو ليس مجرد شعور عابر أو رغبة سطحية في تحقيق الأمور الجيدة، بل نمط فكري يقوم على تحويل المواقف السلبية إلى فرص للتعلم والنمو، مع تعزيز القناعة بقدرة الفرد على التأثير في مجريات حياته.
ويؤكد علماء علم الاجتماع أن التفكير الإيجابي يسهم بشكل كبير في تعزيز الصحة النفسية والجسدية، حيث يقلل من مستويات التوتر ويزيد من المرونة العاطفية في مواجهة الضغوط اليومية، وعلى سبيل المثال، عندما يواجه الفرد تحديًا مهنيًا كصعوبة تحقيق هدف محدد، يمكنه استخدام التفكير الإيجابي لتصور حلول بديلة والعمل على تطبيقها بدلاً من الاستسلام لليأس.
ويتطلب التفكير الإيجابي الالتزام بمجموعة من الشروط التي تجعله نهجًا عمليًا ومؤثرًا في حياة الإنسان، منها الوعي التام بالأفكار الداخلية، حيث يجب على الفرد مراقبة حواره الذاتي، والتخلص من الأنماط السلبية التي قد تتسلل إلى ذهنه، مثل التوقع المبالغ فيه للفشل أو الإفراط في القلق.
كما يشترط التفكير الإيجابي أن يتحلى الإنسان بالإرادة لتغيير عاداته الفكرية والسلوكية، مع الإصرار على التركيز على الجوانب المضيئة في كل موقف، حتى لو كانت بسيطة، وعلى سبيل المثال، قد يواجه طالب تحديًا في اجتياز اختبار صعب، إلا أن اعتماده على التفكير الإيجابي من خلال تذكير نفسه بقدراته على التعلم والاستفادة من الأخطاء السابقة يعزز ثقته بنفسه ويمنحه الطاقة اللازمة للمحاولة مجددًا، وأخيرًا، فإن دعم التفكير الإيجابي بالعمل الجاد والمثابرة يحول الأفكار المتفائلة إلى إنجازات ملموسة؛ ما يجعل منه أداة فعالة لبناء الذات وتنمية المهارات.
– التعلم المستمر:
ولا شك أن التعلم المستمر إحدى الأدوات المهمة والناجعة في بناء الشخصية الحديثة التي تتوافق قدراتها وتفكيرها مع مقتضيات العصر الحديث، خاصة أننا في عصر يمتاز بالسرعة الفائقة في تقديم ما هو جديد على مدار الساعة، ودون اعتماد التعلم المستمر لن تنهض أوطاننا، وسوف يتركنا العالم ليسير أمامنا آلاف السنين، بينما نحن قابعون في أماكننا.
ويجب ألا يقتصر هذا النوع من التعلم على المؤسسات الأكاديمية، بل يمتد ليشمل قراءة الكتب الرصينة، ومطالعة المقالات التي تعالج القضايا المتنوعة، وحضور الدورات التدريبية وورش العمل بمختلف التخصصات، سواءً كانت تلك التجارب عبر الإنترنت أو بالحضور الشخصي، فجميعها تسهم في توسيع آفاق الفكر، وتصنع عقلاً موسوعياً، وقد أشارت تقارير «يونسكو» إلى أن التعلم مدى الحياة ركيزة أساسية للنهوض بالفرد والمجتمع.
– تحديد الأهداف ووضع الخطط:
يتفق خبراء علم النفس وتطوير الذات على أن وضوح الرؤية يجعل الجهد مثمرًا وموجّهًا، ولذلك دائمًا ما يوصون بتحديد أهداف قابلة للقياس والتطبيق وفق منهجية «SMART» (محددة، قابلة للقياس، قابلة للتحقيق، ذات صلة، محددة بوقت)، وتقسيم هذه الأهداف عبر وضع خطط عملية إلى خطوات متسلسلة، بها يتمكن الفرد من تجاوز العشوائية والتركيز على أولويات حقيقية.
ويجمع الخبراء على أن الإنسان الذي يفتقد إلى تحديد أهدافه يتخلف دائمًا عن اللحاق بالتطور، وهذا ما ينطبق أيضًا على المجتمعات التي تفتقد إلى تحديد إستراتيجيات قصيرة ومتوسطة وطويلة لتحقيق أهدافها.
– تطوير المهارات الشخصية:
أظهرت أبحاث حديثة نشرتها مجلة «هارفارد» للأعمال أن الأفراد الذين يطورون مهاراتهم الشخصية، التي منها على سبيل المثال؛ التواصل المؤثر، وإدارة الوقت بكفاءة، وحل المشكلات بإبداع، والتفكير النقدي العميق، يتمتعون بقدرة أعلى على تحقيق النجاح في بيئات العمل، كما أكدت الأبحاث أن هذه المهارات لا تعزز بناء الذات فحسب، بل تفتح أبوابًا مثمرة للتفاعل مع الآخرين؛ وهو ما يسهم بدوره في بناء المجتمع بشكل عام.
– استخدام التقنيات الحديثة:
وتعد التقنيات الحديثة في عصرنا الرقمي أحد الأساليب التي يجب اعتمادها لتحقيق التميز والتطور في عملية بناء الذات، فلم يكن العصر الرقمي يومًا مجرد وسيلة للترفيه، بل أصبح بوابة لتعزيز التعلم وتطوير المهارات، وانتشرت بيننا الكثير من التطبيقات النافعة التي يمكن الاعتماد عليها في تطوير الذات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تطبيق «Duolingo»، أحد أشهر التطبيقات العالمية في تعليم اللغات، حيث تجاوز عدد مستخدميه 300 مليون مستخدم حول العالم حتى عام 2020م، وفي عام 2023م، بلغ عدد المستخدمين النشطين شهريًا حوالي 37 مليون مستخدم.
ومن الأدوات الأخرى التي تمكن الفرد من استثمار الوقت وبناء الذات، منصة «Skillshare»، وهي منصة تعليمية عبر الإنترنت، توفر مجتمعًا تعليميًا للمبدعين، حيث يمكن لأي شخص حضور دروس عبر الإنترنت، ومشاهدة فيديوهات تعليمية، وإنشاء مشاريع، بل وحتى التدريس من خلالها.
وهذه المنصات وغيرها كثير، تستخدم التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي لتنمية مهارات الأفراد في التخصصات التي تقدمها، حيث تعتمد على تحليل بيانات المستخدمين وتحديد نقاط القوة والضعف لديهم لتقديم تجارب تعليمية مخصصة.
وعلى سبيل المثال، تسهم خوارزميات الذكاء الاصطناعي في منصة «Coursera»؛ وهي مزود عالمي للدورات التعليمية المفتوحة عبر الإنترنت، في تقديم توصيات دراسية تناسب اهتمامات المتعلمين ومستوياتهم؛ ما يجعل عملية التعلم أكثر كفاءة، كما تعتمد منصات مثل «Udemy»، و«LinkedIn Learning» على الذكاء الاصطناعي لتقديم مسارات تعليمية تفاعلية تتوافق مع احتياجات السوق وتطلعات الأفراد المهنية، وبفضل هذه الأدوات، أصبح بإمكان المتعلمين الوصول إلى موارد غنية ومتنوعة، وتحقيق تقدم ملموس في رحلتهم نحو بناء الذات وتطوير المهارات بما يتماشى مع متطلبات العصر الحديث.
ولا يتوقف بناء الذات وتنمية المهارات على ما سبق من طرق فقط، ولكن هناك الكثير جداً من المهارات النفسية والروحية والمادية التي تضج بها كتب علوم الاجتماع والتنمية البشرية وعلم النفس، وجمعيها تعزز من قدرة الفرد على تحقيق التوازن والنجاح، ومنها المشاركة في الأعمال التطوعية التي تُكسب الفرد خبرات جديدة وتُنمِّي روح المسؤولية الاجتماعية لديه.
كما أن إدارة الوقت بفعالية باستخدام أدوات تنظيمية حديثة تُسهم في رفع الإنتاجية وتحقيق الأهداف بكفاءة، كما يوفر بناء العلاقات الإيجابية بيئة داعمة نفسيًا ومعرفيًا للفرد، فيما تُعد ممارسة الهوايات وسيلة لإطلاق الإبداع وتعزيز التوازن النفسي، وعبر الجمع بين هذه الأساليب، يُمكن للفرد أن يبني ذاته برؤية متكاملة تصل به إلى المستوى المطلوب لبناء ذات حديثة ومجتمع يلحق بركب الحضارة ولا يتخلف عنها.