مشاهد يشيب لها الولدان.. ويكاد يجن منها العقل، ولم يرو التاريخ مثيلاً لها إلا في عهود «محاكم التفتيش» الفاشية، وعهود الظلام الوحشية.. فقد أصيب القلب بزلزال وهو يشاهد جثمان الطفل الشهيد حمزة الخطيب، وقد بترت أعضاؤه التناسلية بعد أن أثخن جنود إبليس في دمشق جسده بالتعذيب، وشرحوه تشريحًا وهو ما يزال حيًا.. لكن زلزالاً أشد قد أصاب كل ذي عقل أو ضمير وهو يشاهد جثمان زينب الحصني الطاهر، ابنة التاسعة عشر ربيعًا، وقد قطعت يداها من كتفيها، وأحرق وجهها، وسلخ جلدها، وفوجئ بها أهلها وهم يبحثون عن شقيقها الذي ذهبوا لاستلام جثته فوجئوا وقد فككوا جسدها الطاهر قطعة قطعة -تعذيبًا- لكي تفصح عن مكان أخيها الشهيد الذي كان مطلوبًا.
توقفت طويلاً أمام مشهد جثمان الفتاة وأنا أكاد أفقد توازني ودارت في رأسي مسيرة تاريخ طويل من قافلة الجهاد المباركة ضد الظلم والطغيان والكفر والبهتان، وتذكرت أن ما يجمع هؤلاء جميعًا هو اليقين بالحق حتى تصبح النفس رخيصة من أجله.. نظرت إلى وجهها المحروق فتذكرت أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار ثابتًا على التوحيد، ومتحديًا كفرهم وشركهم، وشاهدت يديها المقطوعتين فتذكرت سيدنا جعفر بن أبي طالب مرة وهو ممسك ببيرق الجهاد في غزوة «مؤتة» ولم يفرط فيه، رغم أنهم قطعوا ذراعيه قطعة قطعة، ولم يسقط منه (البيرق) إلا عندما بقروا بطنه فسقط شهيداً.
وشاهدت جلدها المسلوخ فتذكرت سيدنا بلالاً بن رباح وكفار قريش يقومون بشواء جسده في صحراء مكة الملتهبة.. تذكرت السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وهي تشد من أزر ابنها المجاهد عبدالله بن الزبير وهو ثابت في ساحة الجهاد ضد الحجاج، قائلة له قولتها الشهيرة: «يا بني، إن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها».. تذكرت سحرة فرعون عندما ذاقوا حلاوة الإيمان، وانقلبوا من سحرة وكهنة لفرعون إلى مؤمنين بالله فرد عليهم: (لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف: 124)، فردوا عليه في ثبات (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنما تَقْضِي هذه الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طه: 72).
وتذكرت العاقبة السوداء لأولئك الطواغيت؛ (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ {49} سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ {50} لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (إبراهيم).. شاهدت جثمانًا اجتمعت عليه كل ألوان التعذيب والتمثيل، وهو جثمان ليس لقائد من قواد الثورة، وإنما لفتاة صغيرة لا حول لها ولا قوة سوى التعبير عن رأيها والمطالبة بحقوقها مع المطالبين! يا لجبروت آل الأسد وطغيانهم ووحشيتهم!
إن إقدام أطفال وفتيات في مقتبل العمر على الشهادة في سبيل الحق والحرية ومقاومة الطغاة، مقدمين حياتهم وقودًا للثورة، ودماءهم لإرواء شجرتها، هو المؤشر الأهم على أن جذوة الثورة لن تنطفئ إلا بالنصر أو الشهادة.
وزينب -ورفيقاتها- تسجل في التاريخ صورة من أنصع صور جهاد المرأة السورية، وسيذكر التاريخ أن نساء سورية وفتياتها كن المحرك الأكبر لتلك الثورة، فإذا خرجت المرأة وضحت بنفسها بهذا الشكل فهل سيتخلف زوجها أو أبوها أو شقيقها؟
إن خروج المرأة إلى ساحة الجهاد ضد حكم الطائفة الباغية والعائلة المتسلطة وعقيدة «البعث» الفاسدة هو خروج الشعب كله، وهذا ما نشاهده اليوم في شوارع سورية.. إنها ملحمة يقف المرء أمامها بكل احترام وإعجاب ودعاء بالنصر.. زينب الحصني، بأشلائها صارت حصنًا منيعًا لثورة الشعب السوري سيتحطم عليه حكم الطغاة إن شاء الله.
_________________________
shaban1212@Gmail.com