«وانتصرت غزة العزة».. هذا العنوان الذي طال انتظاره كثيراً ليس لمليوني مواطن غزي، بل لأحرار العالم، لكل من يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، لكل من يعلم أن غزة رأس الحربة لكل من يحمل اليقين بعقيدة الإيمان بفلسطين وبوابتها المتينة غزة.
كل يوم، بل كل ثانية وأقل، كنت على يقين بأن النصر مسألة وقت، وسيحل بأمر من الله تعالى في الوقت الذي يعلم بحكمته خيراً ليس لغزة فحسب، بل للعالم أجمع.
لقد وعدنا الله عزوجل في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، لقد قدمت غزة كل ما تملك من النفس والأبناء والمال من أجل نصر الإسلام العظيم، فغزة لم تكن مجرد أرض أو جزء من وطن، بل هي عقيدة ودين قبل أن تكون وطناً وطيناً.
أعلم أن هناك من سيحمل علامات التعجب لهذه الكلمات، ويتكلم بشيء من السخرية وهو يتساءل: كيف يكون هذا النصر بعد هذا الدمار الهائل والأعداد الكبيرة للشهداء والجرحى؟!
نوقن أن الثمن كان باهظاً جداً، لكنه يهون لنصر الإسلام العظيم، نوقن بأن الحزن والدمار خيّم على غزة العزة، لكنها صابرة قوية محتسبة بالأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى.
ثمن هذا كله جاء بشرى من الله عز وجل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 153)، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10).
يقيناً أن الله برحمته وفضله مع أهل غزة، فلن يضيعهم، كل شيء هو بأمره، وهناك حكمة قد تتضح كلها أو بعضها أو قد تغيب عن عقولنا البشرية محدودة التفكير كما قال سبحانه وتعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)، كل شيء يدور في العقل وتغيب عنا حكمته، فالإجابة ستكون: والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
المقاومة أبدعت
من الصعب أن نجد كلمات من الممكن لها توفّي حق المقاومة التي لم تركع إلا في صلاتها لله تعالى، المقاومة التي بدأت بالحجارة إلى أن وصلت لصواريخ تضرب قلب الاحتلال «الإسرائيلي»، المقاومة التي أجبرت الاحتلال على وقف إطلاق النار، المقاومة التي قدمت الخيرة من رجالها في سبيل الله تعالى.
رغم مرور أكثر من عام، فإن الاحتلال عجز عن هزيمتها، فكان بين فترة وأخرى يعلن أنه هزمها بزعمه الكاذب، فسرعان ما ترد المقاومة بصواريخ تضرب كيانه، وسرعان ما يعلن الاحتلال نفسه أرقاماً مرتفعة من مقتل جنده، ورغم أنه يعلن هذه الأعداد فإنه أيضاً يكذب بالأعداد الحقيقية التي قُتلت، فيحاول في كل مرة تخفيض ارتفاع الرقم؛ الأمر الذي جعل الكثير من الجنود يعلنون رفضهم من العودة للقتال وعدد منهم اختار الانتحار، ومنهم لا يزال يعاني من صدمة نفسية.
الحرب لم تكن عادية، فقد ابتعد فيها الاحتلال عن كافة معايير الأخلاق والإنسانية، واستخدم جميع أسلحته المحرمة وغير المحرمة، والدعم المتوالي من المال والأسلحة.
في المقابل، المقاومة كانت تستعمل أسلحة مصنوعة يدوية، وبأقل الإمكانات، حتى إن الكثير منهم كان يجاهد لأيام متواصلة بدون طعام أو شراب، ورغم ذلك كانت لهم قوة بعيدة عن المعادلة البشرية، فقد أخذوا بالأسباب، كما قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60)، هنا الإعداد بالمستطاع، ورجال المقاومة أعدوا كل ما يستطيعون.
هي حرب لم تكن متكافئة بالعدة والعتاد، لكن اليقين والتمسك بحبل الله تعالى كان أكبر بكثير من قوة الاحتلال.
يقيناً أن في هذه الحرب كان جنود الله تعالى حاضرين في المعركة؛ حيث تجلّت بوضوح معاني لطفه الخفي وعنايته الإلهية.
المقاومة في غزة حقيقة غيّرت بفضل من الله عز وجل معادلة القوة، وهزمت مقولة الاحتلال: «الجيش الذي لا يهزم»؛ بل والله هُزم.
حتى لا يستبدلنا
قد يراود البعض سؤال: لماذا كل هذا الصبر؟! فلسطين وخاصرتها ورأس الحربة غزة هي لا تدافع عن غزة وحدها فحسب، بل عن فلسطين والمسجد الأقصى، وعن الإسلام والمسلمين.
وإن تخلت غزة وأهلها عن ذلك فسوف يستبدلها الله تعالى كما قال في قوله الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54).