من خلال قصة يوسف عليه السلام، في القرآن الكريم تنساب عشرات القيم التربوية؛ بحيث نجدها مبثوثة عبر كل المراحل في البداية، وفي الوسط (العقدة)، وفي النهاية.. وإن أية محاولة لقراءة هذه السورة؛ لاستخلاص القيم التربوية العملية المرتبطة بالروح وبالإيمان، وبالأخلاق الزكية، تجعل هذا القارئ المتعمق يشعر فعلًا بما يسميه بعضهم (المدرسة اليوسفية)، أو(الجامعة اليوسفية)، فالسورة -بحق- من خلال (البطل) يوسف، وأبيه يعقوب، والشخصيات المتناثرة؛ التي تقدم الجناح الآخر للصراع بين الخير والشر، كلها تجعلك تشعر بأخلاق النبيين العظيمين (يوسف وأبيه يعقوب)، وتشعر – أيضًا – بمدى الطبيعة الناشرة؛ حين تتخلى عن قيادة الإيمان لها، كما حدث من إخوة يوسف، وتشعر – ثالثًا – بمواقف الآخرين الوثنيين، وخضوعهم لغرائز الدنيا مع وجود بعض أخلاق الفطرة عندهم، واستعداد بعضهم للرجوع إلى الحق.
وابتداءً نقرر أن القرآن – وحده – من بين الكتب السماوية هو الذي ينفرد بوجود قصة حقيقية حول يوسف لها بداية، وعقدة، ونهاية، فحتى في التوراة؛ التي ذكرنا سلفًا أنها أقرب الكتب السماوية إلى القرآن في هذا الموضوع بخاصة، لم تورد قصة يوسف على هذا النحو العضوي، أو الأدبي ذي الحبكة المتماسكة، وإنما أوردتها من خلال (أربعة عشر إصحاحًا) من سفر التكوين (37 – 50)، وهي تسردها سردًا خاليًا من أي ومضات روحية أو قيم تربوية؛ بل لعل فيها من الوقائع ما يشوه بيت يعقوب على العكس من القصة القرآنية ومعطياتها.
والمعجز أنه خلال هذه القصة تنساب قيم تربوية واقعية، نراها حيَّة متحركة على مسرح الأحداث لا تنفصل عن الشخصية، ومقوماتها، وذلك على العكس من التوراة تمامًا.. ولنبق مع القرآن وعالم سورة يوسف.. في إعجازها القرآني التربوي.
يعطينا يعقوب عليه السلام قيمة الحذر، وعدم التباهي بإعلان الشيء، وإظهار الارتفاع عن الآخرين، وذلك عندما يحذر ابنه يوسف من أن يقصّ الرؤيا على إخوته خوفًا من تحريك نفوسهم في اتجاه الشر ضدّه. وهذا درس يغْفل كثير من الناس عن قيمته التربوية، وقد شاع في مجتمعاتنا اليوم تفضيل الذكور على الإناث في بعض الأمور؛ لاسيما المواريث، وتفضيل بعض الأبناء على بعض في المعاملة، أو المال، إمّا بسبب صغر بعضهم، أو اختلاف الأمّ.. وكم كانت لهذه التفرقة من آثار سلبية تهدمت من خلالها معاني الأسرة، وعاش الأبناء يصارع بعضهم بعضًا، وقد يحقد بعضهم على بعض، وقد يقضون شطرًا من أعمارهم أمام المحاكم، وقد يرتكب بعضهم جرائم.. أما صلة الأرحام والترابط العائلي، والحبّ الأخوي.. فهي من أعظم ما يضيع من جراء هذه التفرقة الظالمة!
وحتى الحُبّ، وهو أمر لا دخل للإنسان فيه، يجب أن يتحكم فيه الآباء والأمهات؛ حتى يظهروا أمام أبنائهم بمظهر العدل، ومع أن الحُبّ مطلوب، وقد تكون المساواة فيه صعبة، إلا أن المغالاة في التفرقة فيه، وإظهاره بطريقة غير مبررة قد يؤدي إلى نفور بين الأبناء.
وثمة قيمة ترتبط بصدر السورة -أيضًا- فقد حرص يعقوب على أن ينصح يوسف بالكتمان، وألا يقصّ الرؤيا على إخوته، مع أن الرؤية تشي بالنعمة، ومع أنهم إخوته؛ لكنه كان يحذر من حسد الإخوة لبعضهم، وهذا يوحي باستعمال الكتمان، وعدم التحدث بالنعمة؛ إذا كان هذا الحديث يحرك الحسد في النفوس، وقد يؤدي إلى شرور كما حدث بين يوسف وإخوته؛ الذين ألقوه في الجبّ ليموت، أو ليباع بيع العبيد.
وهناك قيمة نلمحها في صدر السورة – أيضًا – فمع أن يعقوب كان يشعر بمؤامرة أبنائه، إلا أنه لم يشأ أن يدخل معهم في خصومة فيخسر كل شيء، واكتفى بأن قال لهم: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)، ولم يحاول بعد أن شعر ببراءة (الذئب المهذب جدًا) أن يطلب الذهاب إلى الموقع، أو استقصاء الأمور، فالدخول في مماراة ستبعث على تعميق الإحن، وفساد الأمور، واكتفى بالقول:(وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).
وقيمة أخرى نلمحها في صدر السورة -أيضًا- وهي درسٌ تربوي عظيم؛ يعلمنا أن الوسيلة الشريرة لا تصلح للغاية النبيلة، فالأبناء الذين عابوا أباهم، ورموه بالضلال المبين، وهذا سوء أدب نحذر الأبناء منه – يريدون أن يقتلوا يوسف، أو يتخلصوا منه؛ لكي يخلو لهم وجه أبيهم، ويكونوا قومًا صالحين، ولكنّ الأمرين لم يتحققا، فقد عاش أبوهم في كدر سبعة عشر عامًا، وعانوا هم من الشعور بالعقوق، والخيانة، فالشرّ لا يلد إلا شرًّا، فلا يجوز لنا أن نخادع الله، وأن نخدع أنفسنا، وأن نجد لها المبِّرر.. وبما أن الغاية لا تبرّر الوسيلة في الإسلام.. فإنهم قد ارتكبوا الخطأ، وركبوا الوسيلة الباطلة؛ لكنهم لم يصلوا إلى الهدف، وهو الصلاح المزعوم؛ لأن العمل الذي خبث لا يخرج إلا نكدًا.
وتعلمنا السورة -أيضًا- ونحن نستشرف صدرها ونهايتها معًا؛ أن العاقبة للمتقين الصابرين، الصادقين مهما يطل الزمن، ومهما يكن حجم المعاناة؛ بل بقدر ما تكون الآلام كبيرة تكون النتائج عظيمة، ومن هنا فلا طريق إلا الصبر والتقوى، كما قال يوسف نفسه في نهاية القصة.. وقد يقول بعضهم: إن بكاء أيوب يتنافى مع الصبر.. وهذا غير صحيح، فالبكاء -في الحدود المقبولة اللائقة- مشروع، وهو لا يدل على الجزع أو اليأس.. إلا إذا ارتبط بحركات أو أقوال تغضب الله – سبحانه – وتخالف الشريعة.
ولا يجوز أن نعبر قيمة الصبر دون أن نقف عندها؛ فالصبر من أعظم القيم التربية؛ التي تعطيها لنا هذه السورة.. والصبر شقيق الأمل، وهما معًا عدوّان للعجلة واليأس، فلله في خلقه سُنن أجراها على الأنبياء، وعلى سائر الناس، رضوا أم كرهوا.
وما دام الأمر قدريًّا لم تصنعه بيدك فيجب أن تثق في حسن العاقبة، ويرى راشد البراوي أن سرّ صبر يعقوب ويوسف؛ يعود إلى أنهما كانا يدركان أنهما لم يكن لهما دخل فيما أصابهما، فيعقوب استأمن الإخوة على يوسف، فلما خانوا العهد صبر، وهو واثق أنه سيأتي اليوم الذي تزول فيه الغمة، ويوسف زج به في السجن، وهو بريء تمامًا، وجعله هذا الشعور ببراءته يؤمن بأنه سوف يسترد حريته، كما أنَّ يعقوب وابنه كانا يؤمنان بأن الله لابدّ أن يحق الحق ويجزي المحسنين.
لكنني مع تقديري لهذا الميزان القائم على العدل؛ الذي أشار إليه الباحث الكريم إلا أنني أرى أن الثقة في الله، وفي رحمته وعدله، والإيمان الكامل؛ هي الوقود الأعظم للصبر، والأمل، حتى لو لم يأخذ المظلوم حقه في هذه الدنيا، وكم من ظالمين ذهبوا دون أن يُقتصّ منهم؛ مع أنهم لم يظلموا أفرادًا، وإنما ظلموا شعوبًا بأكملها، وفرضوا عليها الاستبداد، والطغيان، كما سرقوا أقواتها، وعملوا لخدمة أعدائها…وعندما يموتون – لأن الدنيا قصيرة، والأعمار محدودة – فإن الأجيال تلعنهم، وتجعلهم مثلًا سيئًا، إلا أنَّ جزاءهم الحقيقي هناك في الآخرة، ولا يمكن أن يكون عقابهم في الدنيا كافيًا في مقابل ظلمهم للملايين، وسرقتهم للمليارات.. فأيّ دنيا تكفي للاقتصاص من هؤلاء؟!
ولذلك حسم يوسف الأمر في نهاية الرحلة عندما أرجع إلى التقوى والصبر كل شيء جميل أعطاه الله له ولأهله.
لقد كان صبر يوسف عميقًا في سعته، ومجالاته المتعددة، فقد صبر على إيذاء إخوته له؛ إيذاءً وصل إلى مرحلة الشروع في القتل، وصبر على بيعه عبدًا بثمن بخس، وصبر على نعم الله بالشكر والطاعة، والعفة، والأمانة على العرض والمال لمن ائتمنه، وصبر على الغريزة الجنسية؛ التي هُيئت له تهيئة حافلة بصور الإغراء؛ التي لا يقاومها إلا الأبطال المؤمنون.. وصبر على السجن، وتحول فيه إلى داعية رشيد، والتزم الأخلاق الزكية؛ التي جعلته ملجأ المسجونين ومعلمهم.. وصبر على العمل المضني؛ الذي وكل إليه لإنقاذ شعب من الموت.. وصبر وغفر لإخوته عندما جاءوه سائلين، يعانون العوز وعذاب السفر، وكان بإمكانه الانتقام منهم.. وصبر – مع التخطيط – في استدعاء أخيه بنيامين ووالده يعقوب، فترك الثمار حتى تنضج.. ثم كشف للجميع عن شخصيته!!
فأي صبر يوسفيّ هذا؟!
ويا لها من قيمة أخلاقية يعلمنا إياها يوسف؛ عندما يحافظ على مشاعر إخوته، ويأبى تذكيرهم بما ارتكبوه في حقه، إنه لم يقل وهو يتحدث بنعمة الله عليه (أخرجني من الجب)؛ بل قال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) متحاشيًا ذكر الجب مراعاة لمشاعر إخوته؛ الذين ألقوه في الجب، وَعَرّضوه للموت.. وهذا درس لنا، حتى لا نذك-ر الذين أساءوا إلينا بإساءاتهم فنخدش حياءهم، وكرامتهم!!
ويا لها من قيمة أخرى جميلة برزت متألقة في سلوك يوسف في بيت العزيز.. إنها قيمة لا نجد لها اسمًا واحدًا، فهي مركبة من (العفة، والوفاء، والإيمان).. ففي مواجهة طغيان زوجة العزيز الجميلة؛ التي زعمت التوراة أن زوجها كان خصيًّا، مع جرأتها في السرّ وفي العلن على طلب الفاحشة، مع التهديد بالسجن، والتصغير، والاحتقار، يقف يوسف بطلًا يعلم الناس وجوب الاعتصام بالله، ووجوب الوفاء، لاسيما في هذه الامتحانات الصعبة؛ التي يظهر فيها المعدن النفيس من المعدن المزيف.. إنه بدلًا من الخضوع، أو محاولة الخروج من الموقف بشيء من اللطف يقف – بقوة وحزم – أمام هذه الزوجة الخائنة ليذكرها بفضل زوجها عليه هو، فكيف بفضل زوجها عليها، وهو الذي جعلها زوجة وزير، ومكنها في الأرض، وها هي تكافئه بالخيانة الوقحة.. أما يوسف وهو الخادم؛ الذي أحبه زوجها، وجعله رئيس الخدم فهو أوْفى منها؛ ولهذا يرفض خيانة زوجها، ولكنّ هذا الوفاء مربوط بالخوف من الله، فإذا كان زوجها أحسن مثواه، فإن الله لا يفلح الظالمين، وهو يخشى أن يكون ظالمًا أمام الله، كما أنه عفيف، ورث العف-ة عن آبائه وأجداده، وآتاه الله حكمًا وعلمًا.. وهكذا بهذه القيم المتداخلة نجح يوسف في هذا الامتحان الصعب، وقبل السجن بديلًا عن حياة تعجّ بالفساد، والتحلل، والخيانة.
وتعلمنا سورة يوسف، وزوجة العزيز؛ خطورة الخلوة بالمرأة الأجنبية في البيت أو غيره، تحت أي شعار أو مسمى، فعلى الرغم من فارق السن والمكانة بين يوسف وامرأة العزيز إلا أنها – مع تكرار الخلوة وظهور مخايل الشباب على يوسف – شغفت به، وسعت لإرغامه على الفحشاء، لولا أنه كان من عباد الله المخلصين.. وللأسف فقد كثر وجود الخدم والخادمات في بيوت بعض العرب والمسلمين.
ويعطينا هذا الدرس قيمة أخرى.. فهذا الامتحان؛ الذي قبل يوسف أن يدفع – من أجل النجاح فيه – ثمنًا غاليًا، وأن يخرج من القصور إلى السجن؛ الذي يشبه القبور.. هذا الامتحان كان طريقه – لو أبصرنا خطوات المستقبل القادمة – إلى المجد، وحكم مصر.. فامتحان واحد يُؤثر فيه الإنسان ما عند الله، وينتصر فيه على الشهوات والمغريات، قد يقوده إلى أعظم نجاح قد لا يتخيله الإنسان في حياته.
ومن القيم التربوية المستوحاة ما يدلنا عليه موقف التفاف المسجونين حول يوسف، وقدرته على الدعوة إلى التوحيد بينهم.. لقد كان وراء ذلك خلقه الرفيع، وسمته الكريم، وصلاحه، وتقواه.. فكان الملجأ للمستفتين، وكان الأمين؛ الذي وثق به رئيس السجن، فجعله رئيس المسجونين، وهذا يعلمنا أن خير دعوة للقيم، وأفضل وسيلة لنشر التربية الفاضلة هو (السلوك).. سلوك المعلمين، والآباء، والمسئولين.
_____________________
المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عبدالحليم عويس.