لا تقف تداعيات الزلزال السياسي الكبير الذي هز سورية بسقوط النظام وهروب بشار الأسد وبدء مرحلة جديدة عند حدود الداخل السوري، بل تلقي بظلالها على الإقليم برمته، ولا سيما ما يتعلق بالتنافس بين مختلف القوى الإقليمية، ولعل في التنافس على سورية نفسها مقياساً مصغراً على ارتدادات الحدث السوري على المنطقة عموماً.
في سورية، وعلى مدى سنوات طويلة، تواجدت قوات عسكرية لعدة دول على الأراضي السورية كتعبير من زاوية ما على نفوذ بهذا القدر أو ذاك، حيث استأثرت الولايات المتحدة الأمريكية بمنطقة شرق الفرات كقوة داعمة لـ«قوات سورية الديمقراطية» المتمركزة في الجزيرة السورية، إضافة لوجودها في قاعدة «التنف» على الحدود مع العراق.
فيما بقي من الجغرافيا السورية تسيّدت روسيا المشهد، وقادت التنسيق بين مختلف الأطراف الإقليمية، وخصوصاً تركيا الموجودة في الشمال والمجموعات المحسوبة على إيران ضمن ما سمّي «سورية المفيدة»، فضلاً عن الغارات والاغتيالات «الإسرائيلية» المتكررة ضد قيادات ومقدرات عسكرية من إيران و«حزب الله».
مع سقوط النظام، انقلبت الآية رأساً على عقب في سورية، فخرجت إيران تقريباً بالكامل من المشهد السوري، واكتفت روسيا بضمانات وتطمينات مرتبطة بقواعدها العسكرية في المرحلة الحالية، وبقيت الولايات المتحدة على حالها بانتظار السياسات الجديدة مع إدارة ترمب.
تركيا و«إسرائيل» خارجتا كاسبتين من التغير السوري الكبير وتملكان أوراق قوة ونفوذ أكبر بكثير من السابق
في المقابل، يُنظر لتركيا على أنها الكاسب الأكبر في المعادلة الجديدة، من زاوية العلاقة الخاصة مع الإدارة الجديدة لسورية، التي عبّرت عن امتنانها لأنقرة على دعمها للثورة منذ البدايات، وكذلك عن وضع خاص في العلاقة معها في سورية الجديدة، كما أن «إسرائيل» كانت في مقدمة من استغل التغيرات الحاصلة وحالة الفوضى قبل استتباب الأمور، فوسعت من مناطق احتلالها في القنيطرة وجبل قاسيون وريف درعا، وقصفت معظم مقدرات الدولة السورية من أسلحة ومخازن وحتى مراكز بحثية فيما عدته العملية الجوية الأكبر في تاريخها.
أوراق قوة ونفوذ
في محصلة ما سبق، يمكن القول: إن كلاً من تركيا و«إسرائيل» خارجتا كاسبتين من التغير السوري الكبير، وتملكان أوراق قوة ونفوذ أكبر بكثير من السابق، نظّر البعض في كلا الطرفين خلال سنوات الثورة السورية والمواجهة العسكرية المستمرة لسنوات بأن هناك مصالح مشتركة بينهما في مقدمتها مواجهة أو موازنة الثنائي الروسي – الإيراني.
وبغض النظر عن مدى صحة هذا الطرح، السطحي في معظمه، فإن المشهد السابق اختفى تماماً لصالح مشهد جديد تتناقض فيه المصالح الجوهرية بشكل كبير وعميق وشبه كامل بين الطرفين.
ففي المقام الأول، تبدو أنقرة الطرف الأكثر دعماً للإدارة الجديدة والأقرب لها والأكثر حرصاً على نجاحها، لا سيما وأنها ستكون في مقدمة المتأثرين إيجاباً أو سلباً بالمتغيرات في سورية من عدة نواحٍ، بينما تمثل «إسرائيل» الخطر الأكبر على سورية الجديدة من حيث الفعل، وكذلك التوجهات، ونظرة الكيان الصهيوني لسورية ولدول الطوق بشكل عام.
ثم هناك النظرة للقيادة الجديدة، حيث يحذر الاحتلال من الخلفيات الإسلامية و«الجهادية» لقائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع، وقيادات «هيئة تحرير الشام» التي تقود المرحلة معه بشكل كبير، بينما تقدم أنقرة نصائحها ودعواتها لمختلف الأطراف العربية والإسلامية والدولية لدعم الإدارة الجديدة ومساعدتها على تخطي المرحلة الانتقالية الصعبة، رغم بعض التحفظات المفهومة التي لا تعبر عنها صراحة.
كما أن تركيا تعبر عن خط أحمر عريض بالنسبة لها يرتبط بوحدة الأراضي السورية ورفض سيناريوهات التجزئة والتقسيم و«الفدرلة»، بينما تتحدث أطراف «إسرائيلية» عن مصلحة ملموسة لها في تقسيم سورية لدويلات عربية/سُنية، وعلوية/ساحلية، وكردية/شمالية، ودرزية/جنوبية؛ بما يضعف سورية ويدفعها لعلاقات جيدة وربما تطبيع مع الاحتلال من جهة، وبما يمكّن الأخير من التعاون مع دويلات الأقليات الناشئة من جهة أخرى.
ثم أخيراً، هناك ما يتعلق بـ«قوات سورية الديمقراطية» في الشمال السوري، التي تمثل «وحدات حماية الشعب الكردية» عمادها الرئيس، حيث تنظر لها تركيا كامتداد لحزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية تستهدف الأمن القومي التركي، بينما تحدث وزير خارجية الاحتلال جدعون ساعر عن التحالف الطبيعي بين «إسرائيل» والأقليات في سورية محدداً الدروز والأكراد، والمقصود بالأخيرين «قوات سورية الديمقراطية» التي أكدت عدة تقارير تواصلها مع دولة الاحتلال من أجل التعاون والتنسيق وتقديم الحماية لها من عملية تركية محتملة ضدها في مناطق شرق نهر الفرات.
هل يعني كل ذلك، هذا التناقض الصارخ في المصالح الحيوية، مواجهة حتمية بين تركيا و«إسرائيل»؟ بالمعنى السياسي والإعلامي وربما الأمني نعم، بالمعنى العسكري المباشر لا، في هذا السياق، من المهم التذكير بتصريحات عديدة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال العدوان على غزة ثم لبنان تحدثت عن خطر «إسرائيلي» مباشر على تركيا، أكثرها إثارة للاهتمام حديثه عن قرب قوات الاحتلال من الحدود التركية بما يقدر بساعتين ونصف ساعة من الزمن.
كما ينبغي العودة لتصريحه المثير للجدل حين قال: إن على تركيا أن تكون قوية لتدعم الفلسطينيين في مواجهة «إسرائيل» كما فعلت في ليبيا وأذربيجان، والقصد هنا التدخل العسكري المباشر وغير المباشر والدعم بالسلاح وغيره.
المواجهة السياسية والأمنية بين تركيا و«إسرائيل» مستمرة بأشكال مختلفة وتبقى المواجهة العسكرية مستبعدة
في المقابل، كان رد وزير خارجية الاحتلال في حينها أن هدد أردوغان بمصير الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، الذي يفهم في سياق شخصي هو إعدامه، وسياق عام هو الفوضى والضعف في العراق منذ ذلك الحين، ومن المهم الإشارة إلى تقرير لجنة «ناجل» المكلفة من قبل حكومة الاحتلال التي حذرت من أن الطموح التركي قد يتسبب بتوترات وربما مواجهة عسكرية مع تركيا، ونصحت باتخاذ الاستعدادات الملائمة لإمكانية مواجهة عسكرية معها بعد سنوات.
المواجهة العسكرية
رغم ذلك، تبقى المواجهة العسكرية بين الجانبين احتمالاً ضعيفاً جداً لسببين رئيسين؛ الأول: الكلفة الكبيرة لمواجهة من هذا النوع بينهما، حيث إنهما القوتان الكبريان عسكرياً في المنطقة، والثاني: سعي واشنطن لمنع مواجهة من هذا النوع بين حليفيها، وامتلاكها أدوات ومؤسسات ومسارات يمكنها تخفيف التوتر ومنع التصعيد.
في المقابل، فإن احتمال الاحتكاك المباشر أو غير المباشر بين الجانبين سيبقى قائماً، ليس فقط بسبب تناقض المصالح الذي سبق تفصيله، ولكن أيضاً لتمظهرات النفوذ التركي في سورية المستقبلية، التي قد ينتج عنها انتشار القوات التركية بشكل أكبر في الجغرافيا السورية، وربما إنشاء قواعد عسكرية ثابتة، فضلاً عن إمكانية عقد اتفاقات تعاون عسكري وأمني مع دمشق، ما يضعها في مواجهة الطرف «الإسرائيلي» الساعي لخلخة الأمن والعدوان على سورية.
لذلك، فإن التوتر سيبقى قائماً بين الجانبين، بينما قد تدفع الكلفة المرتفعة لأي تصعيد بينهما نحو محاولة التفاهم والتنسيق لمنع الصدام، في مثال قريب من زاوية ما (دون تطابق) مع آلية «أستانا» الثلاثية التي منعت لسنوات طويلة الاحتكاك العسكري المباشر بين تركيا وروسيا وإيران في سورية، وقد ذكرت بعض التقارير أن تركيا عرضت على «إسرائيل» عبر أطراف ثالثة السعي للتنسيق معها في سورية، بينما تعرف «إسرائيل» أنها لا تستطيع تجاهل تركيا تماماً هناك.
وفي الخلاصة، فإن ديناميات التوتر بين الجانبين، تركيا والكيان الصهيوني، قائمة وتتفاعل وتتفاقم مع الوقت؛ ما يعني استمرار المواجهة السياسية والإعلامية وحتى الأمنية بأشكال مختلفة وغالباً غير مباشرة، بينما تبقى المواجهة العسكرية المباشرة مستبعدة جداً في المدى المنظور، أما على المدى البعيد، فمن الصعب التوقع بدقة لأن الأمر يعتمد على عوامل عديدة ومختلفة ومركبة ومتفاعلة.