كلام الله الجليل معجز، ولا بد أن نتفكر في الإعجاز دائماً، وأن نزداد يقيناً وإيماناً بالله عن طريق كلامه جل شأنه، واذا وضع المتدبر في ذهنه أن يبحث دائماً عما هو أعمق في المعاني ليصل إلى عمق الإعجاز من دون تعقيد أو اعتقاد أن كلام الله الجليل قد أنزل للخاصة المتخصصين معقداً مشفراً يحتاج لمن يفك الرموز والطلاسم للعامة البسطاء!
يحتاج فهم القرآن وتدبره إلى اقتراب من القرآن بتركيز وعلم وتفكر، نعم ولكنه ليس بعصيّ على الفهم والإحساس.
وأقرب شيء للتخصص في الكلام عند العرب، بل عند كل الشعوب، الشعر، ولكن القرآن ليس بشعر، ولم يحتو شعراً ولا هو بكلام للمتخصصين؛ (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) (يس: 69).
وتكررت صفة «مبين» بمعنى الواضح الذي لا يحتاج لتفسير 13 مرة في القرآن الكريم، وهناك تعبيرات وكلمات غيرها كثيرة تدل على الوضوح المباشر المنير.
(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء: 82)؛ ولم يحدد نوع الاختلاف، فهو إذن في كل اتجاه؛ اختلاف بعضه عن بعض، اختلافه عن الحقائق العلمية والبدهيات، اختلافه عن الواقع والحياة، اختلافه عن طبيعة الإنسان واحتياجاته، وغير ذلك كثير.
أما الانسجام في القرآن بعد إدراك عدم الاختلاف فعميق شامل ومؤثر إلى حد العجب! انسجام في نسيج السورة وإيقاعها وبدايتها مع نهايتها وفي كل آية مع ما قبلها وما بعدها، وحتى مع السورة التي قبلها والسورة التي بعدها، وإلى ارتباط الكلمات المتتالية ببعضها بعضاً، ويصل الانسجام إلى إيقاع السورة وحتى إلى صفة الحرف، إنه انسجام المعنى والإيقاع وصفة الحرف وتكراره وغير ذلك في زوايا الرؤية والمشاهدة مدهش!
وفي التفصيل بسورة «الناس» (قُلْ) فيها عندي بحث غير منشور قادم، وملخص القول عن (قُلْ) هنا هو أنها ترد بعد سؤال (يسألونك)، ولا بد من وضع السؤال في البال ليعلم ما القول وما الرد وما الجواب.
وفي السور القصار لم يرد السؤال، ولكن وجب استخراج، استخراج السؤال من الجواب.
في 14 موضعاً ورد «قل يسألونك» أو «يسألك»، وبعدها أتت (قُلْ).
ومعرفة السؤال في سورة «الناس» من الجواب بمن تعوذ؟ ولمن تلجأ لتحتمي من الوسواس الخناس؟
و(أَعُوذُ) بصيغة المضارع الذي فيه الدوام والاستمرار.
والربوبيَّة تعني الخلق من العدم وتعني الإشفاقَ، والتربية، والحنان، والرعاية والعناية.
و(مَلِكِ النَّاسِ) فيه امتلاكه للناس وهو أمرٌ على سبيل الديمومة والأزَل.
و(إِلَهِ النَّاسِ) من هو الأولى أن يتخذوه إلهاً ومسيطراً.
وهناك في السورة العظيمة دلالة واضحة أن الناس لهم شأن عظيم عند الله تعالى؛ لأنه سبحانه قد أضافهم إلى ذاته ثلاث مرات متتاليات: (بِرَبِّ النَّاسِ) (مَلِكِ النَّاسِ ) (إِلَهِ النَّاسِ)، وأن يشعر المتلقي باهتمام الجليل به لهذه الدرجة يهيئه للقبول والامتثال والاقتراب.
والمدهش واللافت في سورة «الناس» أنْ تحتَشِدَ كلُّ هذه الصفات الثلاث؛ الربوبيَّة والملك والألوهيَّة من شَرِّ ذلك الوَسواس الخنَّاس، الإنسان يستعين بثلاث صفات لله الجليل من شر واحد، وفي سورة «الفلق» قبلها استعانة واستعاذة بصفة واحدة للجليل من أربعة شرور، وأن تكون الاستعاذة بثلاث صفات لله الجليل من شر واحد، فإن في ذلك كناية عن خُطورةِ هذا الشر مما يفعَلُه ذلك الخنَّاس في الخَلْقِ والبشَر، وما يُحدِثُه في الكون من غَوايةٍ وضَلالةٍ وتدميرٍ وهلاكٍ، فهو يُغوي الإنسان والمجتمع والدُّول والشعوب على تدمير حَضارات بعضها بعضاً، ونسْف وُجود أسلافِها، وإيقاعِ الفتن بأبنائها، وإحداث الوَقِيعة بين الأمَّة؛ ممَّا يستوجبُ معه الاستعاذة بصاحب الأمرِ والنَّهي في ذلك الكون؛ حيث لا يقدرُ على الوسواس من الجنة أو الناس إلا خالقُه وإلهه ومليكُه، فهذه الكناية تكشفُ عن خُطورة الموسوس، وفَداحة عمله الشيطاني، وأثر الوَسواس في حياة الأُمَمِ والشُّعوبِ والناسِ، فهذا مَطلَعٌ قُرآني يجعَلُ الخلق في حَذَرٍ من شيطان الإنس أو الجن، ودأبٍ على تجنُّبِه وتنكُّبِ طريقِه، ذلك الطريق الذي يُودِي بجهودهم وأعمالهم وحيواتهم.
والحذر والتجنب والهروب لا يكفي، ولا بد من عمل وقائي مبادئ ضد الوسواس وضد أركانه.
والوسوسة عمل خفي صامت أو هادئ جداً، إن كان صاحبه من الجن فلا صوت ولا أثر، إنما خواطر ومشاركة أفكار وأمنيات.
ولا بد من وقفة في قضية الأمنيات، فالأمنية رجاء وأمل ورغبة وحلم، فلنتخيل خطر الولوج إلى كل ذلك، ولوج بالإلقاء إلى الأمل والرغبة والحلم.
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج: 52)؛ ويا للهول! أول المستهدفين هم الأنبياء والرسل، بل لا يوجد نبي أو رسول استثني، وفي كل أمنية له، ولكن الله ينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم آياته.
وإن كانت الوسوسة من الناس فلا يمكن أن يتصف صاحبها بالعصبية والرعونة وافتعال الضجة والضوضاء، وغالباً ما يكون دبلوماسياً مبتسماً، وربما محبوباً مرغوباً، فانظروا حولكم ملياً وفي كل اتجاه.
و(الْخَنَّاسِ) بصيغة المبالغة كثير الاختفاء وشديد الاختفاء، وهو بلا ريب إن كان من الناس فهو جبان يخاف دائماً أن يعرف كلامه، ويخاف أن يجهر به، والاختفاء الإنسي قد يكون تحت شعارات أو منظمات أو ماسونيات أو إنسانيات.
والقوة بعد الانتباه والوقاية تفزع شيطان الإنس والجن، وأهم قوة في ذلك قوة النفس وقوة الشخصية، فالنفس الضعيفة هي غالباً الضحية التي تستجيب وتقع، والقوة على مستوى الجماعة والمؤسسة الصالحة تفزع المسوس المسموم أكثر وأكثر.
وهناك منذ مئات السنين حركات ومنظمات سرية خناسة تهدم وتدمر وتتغطى بألف لبوس ولبوس، فمنها حركات القرامطة والحشاشين والفرق الباطنية، وهناك الماسونية ونوادي الروتاري.. وغير ذلك كثير خطير يغير أسماءه كل حين.
وهذا الوسواس لا يستهدف الأطراف والجوانب، إنما يستهدف أهم ما في الإنسان؛ أي صدر الإنسان، والكلام عن الصدر كثير، وملخصه أنه أهم موضع للإنسان وهو عقله وشعوره، والوسوسة تهاجم أهم ما في الناس (صدورهم)، والقلب هو العقل والشعور، وما فهمه الناس عن القلب النابض إنما هو اصطلاح وقياس أن يكون أهم عضو تشريحي في الإنسان الذي يضخ الدم هو القلب، ومكانه في صدارة جسم الإنسان وهو الصدر التشريحي.
ولكن ما سر تكرر حرف «السين» في سورة «الناس»؛ حيث تكرر عشر مرات؟
لـ«السين» أربع صفات ضعيفة، هي: الهمس، الرخاوة، اﻻستفال، اﻻنفتاح.
إذن «السين» من الأحرُف المتَّصفة بالهمس، وهو يرسُمُ بشكلٍ واضحٍ طبيعةَ عملِ الشيطان الوَسواس؛ إذ يقومُ بعمَلِه بهمسٍ، وخِفةٍ، وحركةٍ لا صوتَ معها، وفي هذا كنايةٌ عن الجُبن والخِداع، وعدم قُدرتِه على المواجهة الحقيقيَّة للإنسان المتَّصِلِ بالله، وكذلك من الناس كما أسلفنا.
والهمس والخفاء يفيدان التمكن والقرب، فلا يكون الهمس في الأذن ولا في الصدر إلا ممن قرب منك وتمكن في قربه منك فلينتبه كل غافل أو متوجس.
والهمسُ أخفى ما يكونُ من صوتِ القدَم رمز الحركة.