قدر هذه الأمة المسلمة أن تعيش عدة معارك رئيسة على جبهات مختلفة، فمن جهة هي تخوض معركتها الكبرى ضد المحتل الذي يهدد وجودها وأمنها، ويستهدف أقدس مقدساتها لينال من عزتها وكرامتها، ومن جهة أخرى تخوض الأمة معركتها ضد الاستبداد والطغيان الذي يستنزف مواردها ويشل حركة أبنائها، ومن جهة ثالثة تخوض الأمة معركتها الإستراتيجية في النهضة ضد عوامل الضعف والتخلف المختلفة التي تحول بينها وبين قيامها بدورها الحضاري العالمي الذي أراده الله تعالى لها؛ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) (البقرة: 143).
وقد شغلت النهضة بال مفكري الأمة كثيراً في تاريخها المعاصر، وسعوا جادين إلى دراسة كيفية إحداث تلك الحركة الإيجابية الشاملة في واقع المسلمين، وقد اختلفوا في تحليل الأزمة وتحديد المشكلة وبيان معالم النهضة المطلوبة، ولكنهم اتفقوا جميعاً على أن الخلل كما بدأ من الإنسان فإن الحل سيبدأ من الإنسان، فالإنسان جذر كل حضارة، ومنه تتفرع مجالات التحضر المختلفة، ولذا توجهت البحوث النهضوية والحضارية إلى دراسة كيفية صناعة «إنسان النهضة»، وبيان أهم الصفات التي يجب أن يتمتع بها، واختلفت معايير تلك الصناعة الثقيلة باختلاف الفكرة الرئيسة التي ينطلق منها أصحابها.
ونحن نؤمن بالإسلام، تلك الرسالة الربانية الحضارية التي خاطب الله بها العالمين، لتحفظ حقوقهم وترعى مصالحهم في الدنيا والآخرة، ومن هذه الفكرة الربانية الحضارية نستلهم معايير بناء «إنسان النهضة» وأهم صفاته، ونحن نتطلع إلى مبلّغها الأول وقائد نهضتها الأكمل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بنى ذلك الأنموذج الحضاري الأمثل، وصنع ذلك الجيل الحضاري الذي ظهرت آثاره في العالمين كجيل فريد لحضارة الإنسان، حتى دخل الناس في دين أفواجاً وفي حضارة المسلمين أمواجاً.
فاستفاد ذلك الجيل الفريد من كل الحضارات الإنسانية التي حوله دون أن يذوب فيها، وأعاد صياغتهم في الوقت نفسه على منهاج الإسلام تصوراً وسلوكاً، فعادت تلك الشعوب إلى بلدانها تحمل الإسلام عقيدة وتشريعاً وحضارة، حتى نافسوا العرب في خدمة الدين، وكانوا حماته ودعاته على مر السنين؛ الفرس والترك والكرد والبربر وغيرهم، كلٌّ يبحث عن دوره ويجتهد في رفع راية دينه، وبقي التاريخ الإسلامي شاهداً على ذلك كله.
ذلك الجيل الحضاري الأول الذي بناه المعصوم صلى الله عليه وسلم لم يكن معصوماً، بل كانوا –بحسب تعبير العلماء- عدولاً، يغلب صوابهم خطأهم، وتغلب قوتُهم ضعفَهم، غاب عنهم شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية السنة الحادية عشرة لهجرته، فما أفرطوا ولا فرَّطوا، وعاشوا أنموذجاً لكل المسلمين، في السلم والحرب، في الوفاق والشقاق، حتى صدق فيهم حديثه الأول: «فعليكم بما عرفتم من سُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ» (رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه).
وحين نستلهم كيفية بناء «إنسان النهضة» في هذا الزمان، فإنا نتلمس ذلك في سيرة ومسيرة ذلك الجيل المبارك الأول، لا لنقف عند القشور والظواهر التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، بل لننفذ إلى تلك المضامين والجواهر الثابتة مع تعاقب الأيام، لننفذ إلى القيم التي حكمت حركتهم، والدوافع التي امتلأت بها صدورهم، والأفكار التي انضبطت بها تصوراتهم، ليكون هذا هو معنى قول الإمام مالك بن أنس رحمه الله في كلمته المشهورة: «لن يُصلح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلحَ أولَها».
لم يكن شرط بناء إنسان النهضة في ذلك الجيل الحضاري الفريد وجودَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لانقطعت الرسالة الإسلامية بموته، أو توقفت الدعوة وانقرضت بموت آخر رجل تربَّى في مدرسته، ولكن الرسالة الحضارية الإسلامية باقية ما بقي الليل والنهار، والقيام بحقها واجب على كل مسلم، بمقتضى التكليف الشرعي والوعد النبوي الذي يقول: «مثل أمتي مثل المطر؛ لا يدرى أوله خير أم آخره» (رواه أبو داود).
وحين نتلمس اليوم فرصة بناء «إنسان النهضة» من جديد، فإننا نستبطن أولاً تلك التكاليف الشرعية الملزمة والمبشرات النبوية الملهمة عن انتصار الإسلام، وبلوغه ما بلغ الليل والنهار، وعن الخلافة الأخيرة في آخر الزمان، الخلافة على منهاج النبوة، لنقوم على إحداث تلك النقلة البعيدة في عالم الإنسان، الإنسان الذي يؤمن بنفسه ورسالته، ويحمل على عاتقه همَّ المساهمة في تغيير عالمه، يحفر في صخر واقعه بصبر وحكمة، ويتلمس في جدار خصمه أي فرصة، ينفتح على كل تجربة وخبرة، ويتزود منها بكل مهارة، ويواجه الحياة وصعوباتها، دون أن ينطوي على ذاته أو تاريخه أو آلام زمانه، ويرى الأمل دائماً في جوف الظلام.
ولأنه يؤمن بأن الوعي قبل السعي فإنه يعيد قراءة التاريخ، تاريخه هو وتاريخ خصومه، فالتاريخ بيت الحكمة ووعاء التجربة، ليقرأ ما فيه قراءة نظر وعبرة، لا قراءة قصص أو بكاء على الأطلال، ثم يدرك أثر هذا التاريخ على الحاضر، الحاضر الذي له أيضاً شروطه وسُننه، لينتقل من الإدراك إلى التوظيف، إدراك دروس التاريخ وسنن الحاضر إلى توظيف هذه الدروس والسنن في خدمة الرسالة والهدف، فكما أن الحاضر ثمرة الماضي وولده، فالحاضر بذرة المستقبل ووالده.
ويعينه في أداء مهمته الحضارية ما يراه في المقابل من حضارة مادية مهيمنة، بلغت أوج قوتها ولكنها فقدت أبسط مقومات إنسانيتها، ارتقت بجنس معين من البشر واستعبدت الآخرين بذريعة أن الحياة مادة وأن البقاء للأقوى، ارتفعت بالإنسان في عالم المادة والصناعة ولكنها هبطت به كثيراً في عالم القيم والعلاقات الإنسانية، تنادي بحقوق الإنسان ثم تكون أول من يتآمر على الشعوب المستضعفة والأمم المغلوبة، فكان شقاء البشرية بها مضاعفاً، هذا الواقع المرير هو أحد أهم دوافع إنسان النهضة نحو التغيير، الذي يذكّره دائماً بعظمة فكرته ونبل مقصده ووجوب اجتهاده وصبره.