لكل أمة ميراثها الذي خلفه السابقون ويكمله اللاحقون، ويتميز هذا الميراث بالتنوع والشمول لكل نواحي الحياة ومجالاتها المادية والمعنوية، وهذا هو ما يسمى بالتراث.
والتراث الإسلامي هو مجموعة العطاءات المتنوعة التي ورثناها عن الآباء والأجداد من خلال تفاعلهم مع أوامر الإسلام ونواهيه، ومن خلال هذا التعريف يتبين لنا أن التراث الإسلامي لا يشمل القرآن والسُّنة، فهما المصدر المعصوم للإسلام، أما فهم الناس وتطبيقات الأجيال لهما، فهو التراث الذي نتعامل معه، فنقبل أو نرفض من خلال المعايير العلمية السليمة.
والتراث الإسلامي خزانة للخبرات والمنجزات التي يمكن أن تقود الإنسانية في المستقبل، ففيه جواهر دينية ودنيوية متنوعة، ويمكن أن نتعامل معه في مجال السياسة الشرعية من خلال تقسيمه إلى التراث المتعلق ببيان أدلة الشريعة الإسلامية، والتراث المتعلق بالاجتهاد المعالج للواقع الذي كتب فيه، والتراث المتعلق بالإبداع السابق للزمان الذي كتب فيه، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: تراث السياسة الشرعية المتعلق ببيان أدلة الشريعة الإسلامية:
يقصد بهذا التراث ما كتبه العلماء في بيان أدلة الشريعة الإسلامية من إجماع المسلمين أو استحسانهم لنظام معين، أو اجتهادهم في استخلاص حكم معين فيما يتعلق بسياسة الناس، والتعامل مع الآخرين، ومن أمثلة ذلك: كلامهم عن ولاية المرأة ومنعها من الولاية العامة، وكلامهم عن قتل نساء الكفار المحاربين وأطفالهم على سبيل المقابلة الرادعة تجويزاً أو منعاً، لتردد المسألة بين المعاقبة بالمثل، والنهي عن قتل غير المقاتلين(1)، إلى غير ذلك من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء.
وهذا التراث لا غنى عنه في العصر الحاضر، حيث إنه ينقل كلام العلماء واختلافهم في المسألة الواحدة، لنختار من الآراء ما يناسب عصرنا وحالنا.
ثانياً: تراث السياسة الشرعية المتعلق بالاجتهاد المعالج للواقع الذي كتب فيه:
يقوم هذا التراث على معالجة المسائل والأحوال التي طُرِحت في ذاك الزمان، فهو تفريع واجتهاد متعلق بالواقع الذي كتب فيه، مثل الحديث عن الجواري والعبيد، وتقسيم الوزارات إلى وزارة تفويض ووزارة تنفيذ، وغيرها من نظم الحكم والقتال التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وهذا النوع من التراث إنما هو استرشادي بالنسبة لنا، فإن وجدنا فيه فكرة تناسب عصرنا أخذنا بها، أو ببعضها، أو نتركه كله لعدم التشابه بيننا وبينه.
والحقيقة أن التعامل مع هذا النوع من التراث بهذه الصورة يعد تعاملاً واقعياً ودقيقاً، حيث إن الإنتاج العلمي للناس كثيراً ما تكون له مدة صلاحية، إذا انتهت هذه المدة؛ قَلَّ الانتفاع به، وفَقَد الكثير من أهميته.
نضف إلى هذا أنه قد يكون جزءًا من منظومة معرفية عامة، يتغير الكثير من ملامحها في كل عصر من العصور، وإذا أخرج الإنتاج المعرفي منها؛ فإن إفادته ومساهمته في رقي الحياة الاجتماعية تكون متواضعة، وهذا كله يعني أن الانتقاء هو الخيار الصحيح الذي يجب أن نجنح إليه عند التعامل مع هذا التراث.
ولا يصح القول: إن السبب الرئيس في تخلفنا يعود إلى ذلك التراث، فلا ينبغي أن نلتفت إليه أصلاً، والجواب على هذا: أن جزءاً مهماً من تراثنا نتاج حضارة زاهية، ظلت مصدر إشعاع وتنوير للعالم مدة تقارب عشرة قرون، والأسس والأدبيات التي قامت عليها تلك الحضارة، من صميم التعاليم الإسلامية، وهي تعاليم ذات صبغة عالمية، وما زالت تحمل طاقة هائلة تحفز لإنشاء حضارة جديدة.
لذا، نقول: إن الأمم حين تملك عماد الانطلاق الحضاري تستطيع أن تتجاوز المعوق من تراثها تارة، وأن تعيد تأويله وتفسيره تارة أخرى، كما تستطيع أن تستوعب إشكالاته ضمن أطر ونظم أرقى وأوسع تارة ثالثة(2).
فعلينا أن ننظر إلى التجارب والأساليب الذي زخرت بها حضارتنا الإسلامية، ونستلهم منها ما يمكن الاعتماد عليه في إصلاح الشؤون الحياتية التي نحياها اليوم، وفي إعمار الأرض التي نعيش عليها.
ثالثاً: تراث السياسة الشرعية المتعلق بالإبداع السابق للزمان الذي كتب فيه:
هذا التراث الذي يمكن أن يطلق عليه إبداعاً سابقاً لزمانه، وهو ينتمي إلى فقه المسائل الافتراضية، التي لم تكن قد وقعت أثناء مناقشة هذه المسائل، مثل: افتراض خلو الزمان عن خليفة، وتوابع ذلك من أحكام تتعلق بالأمة، والذي سطره الجويني في «غياث الإمام في التياث الظلم».
ويعد هذا التراث ثروة أساسية في جهود التجديد المعاصرة، لمتانة فقه أصحابه، مع عدم تأثرهم بالضغوط الواقعية التي جدّت بعدهم(3)، فالرجوع إلى اجتهاد فقيه من أهل الاجتهاد له قول في المسألة أقوى بكثير من نظر من هو أدنى منه منزلة في الاجتهاد والقدرة على النظر، فقد يجد المفتي في زماننا قولًا في مسألة عرضت عليه للإمام أبي حنيفة، ومن سلك مسلكه في الفقه الافتراضي، فيفتي بقوله وكأن الذي أفتى فيها هو الإمام أبو حنيفة أو غيره، ممن قالوا بالفقه الافتراضي.
وإذا كان الفقه الافتراضي الذي تركه السابقون قد أفادنا في زماننا في الحصول على الفتاوى المنضبطة من أهل الاجتهاد، فإنها أفادت أيضًا في فتح آفاق التفكير العقلي المنضبط للعلماء المعاصرين، فالمسائل الفقهية الفرعية في زماننا أكثر بكثير مما كانت عليه في الأزمنة السابقة نتيجة تطور العصور، وما جدَّ فيها من مخترعات وما طرأ على أنماط حياتهم، ومعاملاتهم المعاصرة في شتى المجالات؛ لذا فإنه من المفيد بعد اجتهاد المعاصرين لمعرفة أحكامها أن يتطرق التفكير إلى تقليب المسائل على أوجهها المحتملة، وما يمكن أن يتفرع عنها ثم يقررون أحكامها، وذلك إن ترك لهم زحام المسائل الواقعة المتلاحقة وقتاً للتفكير والبحث عن أحكام ما يتصور وقوعه من مسائل جديدة.
____________________
(1) مبادئ السياسة الشرعية: أشرف عبدالمنعم، ص 5.
(2) تجديد الوعي: د. عبدالكريم بكار، ص 155.
(3) مبادئ السياسة الشرعية: أشرف عبدالمنعم، ص 5.