يتطور الحضور المسلم بأوروبا من حيث الكم والكيف يوماً بعد يوم، وكي نقيه عثرات تشتت الجهود، والانشغال بالوسائل عن المقاصد، والجوهر عن المظهر، والتحليق بعيداً عن فضاء الفعل الأكثر أثراً، والأعظم انتشاراً، علينا أن نرهق عقولنا قليلاً لتحديد أفضل الأعمال من فاضلها، وأبلغ المناشط في الوصول لغاياتها؛ فأوقاتنا محصورة، وجهودنا معدودة، وآمالنا بعيدة، وطموحاتنا واسعة، وأعباؤنا كثيرة؛ لذلك يلزمنا أن ندندن حول عدد من الأولويات التي يجب أن ننشغل بها في المرحلة القادمة.
البناء التربوي للأفراد:
تؤدي الأعمال والأنشطة الجماهيرية دوراً كبيراً في التعريف بالإسلام وتعاليمه وأخلاقه وآدابه، إلا أن من الخطأ الكبير أن نصرف كثيراً من طاقاتنا في الوسائل العامة والبرامج الجماهيرية، ونرهق كوادرنا من الشباب حتى يستنفدوا قدراتهم، وعلى الجانب الآخر لا ننفق معشار هذا الجهد في العمل التكويني التربوي الذي يُفضي إلى صناعة القيادات واكتشاف المواهب وتوظيفها، ما يؤدي إلى ضمور العمل والمعاناة من قلة العاملين، ثم بعد حين تتوقف بعض الأعمال الكبيرة.
والملاحظ لنشاط المؤسسات الإسلامية على الساحة الأوروبية يرى تراجعاً بالكفاءات والكوادر، وفقداناً لطاقات عديدة لأسباب مختلفة، ما بين المرض والتقاعد المبكر، وحصاد «كورونا» لكثير من أهل الفضل.
ولا ريب أننا أمام تحدٍّ كبير للحفاظ على مؤسساتنا، وحسن أدائها، وتطوير عملها، ومن ثمَّ يجب أن يتوجه قسط كبير مما نملك من الوقت والجهد والمال إلى التربية، والعناية بالجيل الناشئ، من مهد طفولته، إلى يفاعته، إلى شبابه.
والسؤال: من أين نبدأ؟
عمود الخيمة، ومفتاح الباب، وأساس البناء، وحجر الزاوية، هو المربي، فلا بديل عن العناية بالبدء به، اختياراً، وتكويناً، وتوجيهاً، وترشيداً، وبناءً.
التربية الروحية دواء العصر:
من أدواء عصرنا أن رأس الإنسان أصبح أكبر من حجمه؛ فثَقُل به بدنه، ولم تعد تحمله أقدامه، وغدا يعاني من فرط الشهوات، وهزال الروح، ومن ثم علينا أن نبذل جهداً كبيراً في تفعيل الوسائل التي تُطهر القلب وتُنقيه، وتُجمل الخلق وتُرقيه، وتُقوي الضمير وتُزكيه، وتُهذب السلوك وتُنميه.
الناس لا يتأثرون بالكلام الحسن بقدر الفعل الذي ينشر السعادة والسلوك الذي يرسخ للسلام
العمل المشترك:
يتمتع المجتمع الأوروبي في عمومه بتعظيم دور المجتمع المدني وتأثيره في الحياة بمختلف مجالاتها؛ فهناك مساحات واسعة وفرص كبيرة لا نستفيد بها على الوجه المأمول، وأعني بذلك فرص التشبيك مع مؤسسات المجتمع المدني.
وما يزيد الشعور بالتقصير أن تلك المؤسسات حريصة على تشريك شرائح المجتمع في الأعمال التي تدخل في اختصاصها.
ألم يأمرنا الحق تبارك وتعالى أن نفعل الخير بشكل مطلق، وجعل صناعة الخير ثمرة طبيعية لتفاعل القلب مع الجوارح مدفوعاً بقوة الإيمان بالله الرحمن الرحيم، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج: 77).
إن الناس عامة لا تتأثر بالكلام الحسن، والبيان الرصين، بقدر ما تتأثر بالفعل الذي ينشر السعادة، والسلوك الذي يرسخ للسلام، والمشاعر التي تُرسي المحبة والطمأنينة.
هل يعني كلامنا أنه لا حضور لنا في جنبات العمل التطوعي بالمجتمع الأوروبي؟
بالطبع لا، فكل مسلم حول العالم عليه أن يفخر بالنماذج العظيمة الرائدة المشرقة لمسلمي أوروبا الذين يتفانون في خدمة أوطانهم دون النظر إلى مغنم سوى مرضاة الله تعالى وخدمة مجتمعاتهم ورفاهيته؛ فأينما التفتَّ على مستوى أوروبا قاطبة، وجدتَ آلاف المساجد التي تُسهم بصدق في أمن وسلامة المجتمع الأوروبي من خلال خطابها المعتدل، وحضها المسلمين على أن يكونوا مواطنين صالحين منتجين نافعين للناس.. كل الناس، على اختلاف عقائدهم وألوانهم.
إن رصيد المسلم من حب الخير وصناعته، والعطف على الضعفاء والكف عن إيذاء الناس وحفظ أموالهم وأعراضهم رصيد وافر؛ ذلك لأنه القرآن الكريم -الذي يجهل رسالته ملايين البشر- هو من يؤسس للرفاهية الروحية، والسلامة المجتمعية، والراحة النفسية، والطمأنينة القلبية.
عشرات الآلاف من الشباب المسلم الأوروبي يمثلون اليوم والغد أملاً كبيراً لأوروبا في المحافظة على المكتسبات الحضارية، والنهوض الاقتصادي، والتطور العلمي.
وقد أثبتت أزمة «كورونا» في العامين الماضيين المسؤولية العظيمة التي أظهرتها المؤسسات الإسلامية قاطبة في الحفاظ على سلامة المجتمع رغم ما تطلبته من خسائر مادية كبيرة، ولا سيما أن الغالبية الساحقة من المساجد لا تتلقى درهماً ولا ديناراً من هنا أو هناك.
ولو أردتَ تتبع ملامح الإسهام الحضاري لمسلمي أوروبا لمجتمعاتهم، فهذا ما يقصر عنه مقال أو كتاب، بل يستدعي ذلك دراسات وافية.
إننا لا نرسم صورة مثالية، بل نرى مساحات الإشراق والإنجازات، وفي الوقت ذاته نعاين جوانب الخلل والتقصير، فنحمد الله تعالى على التوفيق لفضائل الأعمال، ونستغفر من النقص والتأخر، ثم نبحث عن الثغرات الخالية فنسدها، قدر الوسع والطاقة.
ما آمله في عامنا الجديد أن يكون لكل مسجد وكل جمعية صغيرة أو كبيرة سهم وافر في العمل التطوعي مع مؤسسات المجتمع المدني، مثل: التطوع ساعات في الإطفاء، أو مع جمعيات الرفق بالحيوان، أو جمعية المحافظة على البيئة، أو جمعيات مكافحة العنصرية، أو أطباء بلا حدود.. إلخ.
صناعة النفسية الإيجابية:
منذ نزل القرآن الكريم على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1)، منذ هذا اليوم فتح الرحمن الرحيم طريق النور والأمل للإنسانية، فمن يقرأ باسم الله، ويكتب باسم الله، ويشق طريقه في الحياة باسم الله، ويتعلم باسم الله، ويُعلم الجاهل باسم الله، ويلتمس سبيل النجاة للحيارى باسم الله، ويعمل ويُنتج باسم الله، ويعبر البحر والجر باسم الله، ويقارع الظالمين باسم الله، ويصلح ما اعوجَّ من السلوك والأفكار والمشاعر باسم الله؛ فلن يعرف اليأس إلى قلبه باباً، ولن يتسلل الشك إلى عقله، ولن يهتز يقينه أمام موجات الماكرين هنا أو هناك.
وهناك كلماتٌ يجب أن تختفي من قاموس المسلم في الشرق والغرب، تلك التي تعبر عن سخط أو تشاؤم أو قنوط؛ ففي عصرنا وفي كل عصر نجد الصعوبات الفردية والأسرية والجماعية، وتلك طبيعة الحياة، والحكمة من وقوع الأكدار في هذه الدار، كما ذكر القرآن الكريم في عدد من السور، وإلا لما خلق الله الجنة والنار في الآخرة.
رصيد المسلم من حب الخير والعطف على الضعفاء والكف عن الأذى وحفظ الأموال والأعراض.. وافر
فلن يقول يوماً: لا أقدر، ولن يتردد في إيمانه بأن له إرادة حرة، ولن يعجز، وسيرى النور ويعيش بالأمل يحدوه العمل، ومن أمره أن يردد في كل صلاة: «إياك نعبد وإياك نسعين» سيمده بالصبر والقوة والعزيمة، وإن ضعف يوماً لأنه بشر سيربط الله تعالى على قلبه، وإن سأل الله تعالى العون فسيجد برد اليقين وضياء الإيمان يفتح له الطريق.
قد يخفق المرء في عمله، لكن عليه ألا يجلس باكياً على اللبن المسكوب يعض أصابع الندم؛ بل ينطلق معتبراً من الأخطاء، يعوض فشل الأمس بنجاحات كثيرة، يعرف بعدها حكمة الله تعالى في زلته الماضية بعد أن تألَّم وتعلَّم.
تلك هي النفسية الإيجابية التي لا تستسلم للمصاعب والتحديات، ولا تنهزم نفسياً، بل تقابل التحديات بالأفكار العملية والبرامج التطبيقية، وحسبنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعن بالله ولا تعجز».
نريد في عامنا الجديد أن نحدد أهم الملفات التي يجب أن نحقق فيها إنجازات كبيرة، ونقطع فيها خطوات جادة، مستعينين بالله تعالى، متوكلين عليه، موقنين بتوفيقه وعونه، متجردين من حولنا مستمطرين غوث الله جل جلاله.
وهذه أهم الملفات في تقديري:
1- ملف الأسرة وما تتعرض له من غواية إبليسية مدججة بأخطر الأساليب والحيل الماكرة التي تبغي استئصال بنيانها، وهدم أركانها، ومسخ هويتها، وإزالة وظيفتها، وإفساد فطرتها، وتلويث براءتها.
2- ملف العنصرية البغيضة التي تستهدف مكونات المجتمع كله، غير أن المسلمين أصحاب النصيب الأوفر، والحظ الأكبر في الاعتداءات المادية والمعنوية، سيما المرأة المسلمة التي تعاني الظلم والإقصاء بسبب هويتها الدينية الممثلة في حجابها الذي يتطاول عليه كل مفترٍ لا يؤمن بالحرية والعدالة.
– ملف الشباب وحفظ هويتهم الدينية، وهو همٌّ عظيم يجب علينا أن نُوليه عناية كبيرة، على مستوى الخطاب المسجدي، والمضمون التربوي، والمشاريع العملية، والبرامج المختلفة.
هذه الملفات وغيرها، يجب أن تشغلنا ونضع لها البرامج والوسائل لتحقيق نجاحات كبيرة فيها، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وليس بعد عون الله من عون، وعلينا العمل، ومن الله تعالى المدد والسداد، وربنا الرحمن المستعان.