شرط الصحبة: إقالة العثرة، ومسامحة العشرة، والمواساة في العثرة
إذا تناولنا بالحديث أدب التغافل عن عثرات الناس، فإننا نذكر قول النبي المصطفى “صلى الله عليه وسلم”: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً»، وفي الحديث أيضاً: «إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل، الصائم بالنهار، الظامئ بالهواجر». ويقول سيدنا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: شرط الصحبة: إقالة العثرة، ومسامحة العشرة، والمواساة في العثرة. وهذه المقولات من الدرر التي ينبغي على الإنسان العاقل أن يضعها نصب عينيه في كل صباح ومساء، خاصة عندما يخرج ويلتقي مع الناس.. فالأخلاق تبرز عندما يلتقي الإنسان بالإنسان، ولكن إن كان في خلوة مع نفسه أو في خلوة مع ربه؛ فليس هنالك ما يضغط على هذه النفس. وأصعب ما على النفس أن يكون هناك تغيير في هذه الأخلاق.. لماذا؟ لأن هذه الأخلاق بالنفس طبعت على هذا وأشد صعوبة عندما يكون ذلك التغيير لأمر يخالف ما تهواه النفس، كأن يكون أمراً بالإنفاق وهو بخيل، أو أمراً بالتغاضي وهو يتصف بحرارة النفس. لذلك صاحب هذه النفس وبهذه الصفات فيه صفات من الحيوانات ومن الشيطان، نسأل الله العافية. ذلك أن النفس في مواجهة هذا التغيير أو في مواجهة أدب التعامل مع الآخرين لها ثلاثة أمور تتصف بها، أو ثلاثة أخلاقيات تتحلى بها: الخلق الأول: أن الشيطان يدعو الإنسان أن يتصف بأخلاقه؛ «الكبر، الحسد، العلو، البغي، الشر، الأذى، الفساد، الغش، الظلم»، فالشيطان يدعو أتباعه للاتصاف بهذه الصفات، بل ويزيّنها لهم، بل ويجعلها من الصفات الحميدة. فالكبر أول صفة من الصفات (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ {76})(ص)، يقول محاجّاً الله سبحانه وتعالى: أنا أفضل من آدم؛ حيث خلقتني من نارٍ وخلقته من طين. لذلك، هذه الأخلاق يدعو لها الشيطان أتباعه بل ويزيّنها لهم بأنها الفضل أو التمام والكمال، أيضاً في هذا الإنسان داعٍ يدعوه لأن يتخلق بأخلاق الحيوانات، وهي دواعي الشهوة. والأمر الثاني: الداعي إلى أخلاق الملاك؛ «الإحسان، النصح، البر، الطاعة، العلم، الكريم، الجود»، ويكفي بأنهم يعبدون الله سبحانه وتعالى بالليل والنهار ولا يفتُرون، يكفي هذه الصفة إن استطعنا أن نكتسبها من أخلاق الملاك والملائكة، يكفي أنه لا تحاسد ولا تباغض ولا ظلم – كل الصفات الذميمة ليست متواجدة بينهم – إذن، يسمو المرء بترك الخصام والمعاتبة والمطالبة. فلابد أن يكون لنا نصيب كبير من أخلاق الملائكة، وأكثر ما في ذلك التغافل عن عثرات الناس الذين نحن بصدد التعامل معهم، وأن يكون لنا أدب في قضية التغافل عن عثرات الناس، بل وأن نشعرهم بأننا ما نعلم لأحد منهم عثرة علينا – بمعنى أنه وإن كان يخطئ عليك؛ فيجب أن تشعره بأنه لم يحدث خطأ، بل يكون التوقير والتعظيم وحفظ كرامة هذا الإنسان. وهذا يحتاج منا لشيء من المجاهدة ليصبح طبيعة وسجية، يقول أحد التابعين: جاهدت نفسي أربعين عاماً حتى أتحلى بمكارم الأخلاق إلى أن أصبحت متقبلاً لهذا الأمر، وإلى أن أصبحتْ من سجيتي. فيجب على المسلم أن يجبر نفسه ويلزمها بالأخلاق الطيبة، وألا يغضب الله سبحانه وتعالى.. وألا يظهر ما يكرهه من غيره بنفسه «أنا أكره لنفسي البخل فما أظهر هذا الخلق للناس». وبنفس الوقت، أنا أكرهه من الناس لأني ما أريد أن أوصف بهذه الصفة، وما أريد أن يأخذ الناس عني مثل هذه الذلة من الأخلاق. لذلك يمكن أن يوجد عند الإنسان من يعمل عنده مثل الخادم، وتكون به كل الصفات غير المرغوبة، ومع هذا يتركه في المنزل عنده ولا يطرده أو يسرحه.. لماذا؟ لأنه يتعلم معه الأخلاق الطيبة التي يجب أن يتحلى بها من خلال تعامله مع هذا الإنسان. وهذه قمة في قضية أدب التغافل مع الناس، وإذا جئنا إلى تعريف أدب التغافل نقول: حسن الخلق والإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم واحتمال الأذى منهم، وهذه المنزلة ما يصلها كل إنسان، «فهي منزلة شريفة عبرت عنها شريعتنا السمحة بأنها مكارم الأخلاق». إذاً، أدب التغافل هو بالحقيقة قمة المكارم بهذه الأخلاق.