لا يزال الوضع؛ السياسي والاجتماعي، صعباً في أوكرانيا عامة، وخاصة في شبه جزيرة القرم، التي يتمحور الصراع عليها بين روسيا من جهة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة
لا يزال الوضع؛ السياسي والاجتماعي، صعباً في أوكرانيا عامة، وخاصة في شبه جزيرة القرم، التي يتمحور الصراع عليها بين روسيا من جهة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة أخرى.
حديث كثير يسمع هنا وهناك عن تحركات مكوكية ودبلوماسية يقوم بها المسؤولون الغربيون والأمريكيون بين كييف والعواصم الغربية بالتوافق مع روسيا الاتحادية لحل طلاسم الأزمة الأوكرانية في ظل الواقع المعقد في جميع أنحاء الجمهورية.
لكن اللافت للانتباه أن صوت القوة الشعبية الثالثة في شبه الجزيرة لا يكاد يسمع لها صوت، سواء في الإعلام الروسي أو في التصريحات السياسية للقيادات الأوكرانية والروسية والغربية على حد سواء، هناك اهتمام بوجهة نظرهم ودورهم في مستقبل شبه الجزيرة يتحدث عنه علماء السياسة والاجتماع، وليس السياسيون الذين بيدهم الحل والعقد.
الاستفتاء والانقسام الداخلي: منذ بداية الأزمة في أوكرانيا، أعلنت السلطة الموالية لروسيا «تفكيك» صلاتها بالسلطة في كييف على اعتبار أنها غير شرعية، وجاءت عبر انقلاب على الرئيس «يانوكوفيتش»، جرى الحديث بقوة عن ضرورة القيام باستفتاء حول مستقبل شبه الجزيرة وبقائها ضمن الدولة الأوكرانية أو انضمامها إلى روسيا، منذ ذلك الحين حاول مسلمو القرم تنظيم احتجاجات أمام البرلمان المحلي ومقر الحكومة ليعربوا عن رفضهم الواضح للخطوات التي تقوم بها الحكومة الجديدة المنتخبة، والموالية لروسيا، لكن تلك التحركات وجدت صدىً مضاداً من القسم الآخر من الشعب (غالبيتهم من القومية الروسية) الذي دافع باستماتة عن البرلمان، وأسفرت الأحداث عن مقتل شخص وجرح العشرات، تراجع المسلمون حينها لحفظ أرواح الناس والتعبير عن رأيهم بطرق أخرى.
لكن من الواضح أن المسلمين ليسوا على قلب رجل واحد بشأن الاستفتاء، وكيفية التعامل مع المعطيات الجديدة في شبه الجزيرة، خاصة بعد أن دعا رئيس الوزراء الجديد «سيرجي أكسيونوف» المسلمين التتار للدخول في كافة أجهزة سلطة الدولة التابعة للحكم الذاتي، وخصص لهم منصب نائب رئيس الوزراء، وتقديم اثنين من الحقائب الوزارية، وكذلك نواباً في الوزارات السيادية، كما أكد «أكسيونوف» للمسلمين التزامه بمضاعفة كمية الأموال التي ستخصص لإعادة توطين العائدين من المنفى (حوالي 22 مليون دولار)، كما وعد بأن تكون اللغة التتارية واحدة من اللغات الرسمية في شبه الجزيرة.
في المقابل، مجلس الشعب التتري في شبه جزيرة القرم الأكثر شعبية بين التتار، والأكثر تمثيلاً لهم، عبر عن موقف رئيسه «رفعت تشوباروف» الذي أشار إلى أن الانضمام إلى روسيا سيكون «كارثياً» للقرم وللشعب التتري الذي يتحدث باسمه، ولأن مجلس الشعب التتري واعٍ لقضية عدم الظهور في هذه المرحلة، وتصنيف نفسه مع فئة معينة، بل إنه يعمل على إظهار الصراع على أنه «أوكراني روسي»، مع قناعتهم أنهم سيكونون الضحية في حال نشوب صراع، ولذلك صرح «تشوباروف» أن هذا الصراع في حال نشوب حرب بين الطرفين سيؤدي إلى «وقوع ضحايا جماعية»، حسب تعبيره.
واعتبر «تشوباروف» أن السلام وتحقيق الاستقرار في جمهورية شبه جزيرة القرم ذات الاستقلال الذاتي لن يتحقق إلا بإرسال قوة حفظ سلام دولية تابعة للأمم المتحدة، مناشداً باسم المجلس «الأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبية، والبرلمانيين، ورؤساء حكومات الاتحاد الأوروبي، ومجلس أوروبا»، وطالبهم باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك.
وعلاوة على ذلك، حثَّ «تشوباروف» مواطنيه إلى مقاطعة الاستفتاء حول الوضع في شبه جزيرة القرم.. ووفقاً له؛ فإن النتائج معروفة مسبقاً؛ نظراً لأن السلطات في القرم، بغض النظر عن أعداد الناس التي سوف تشارك في الاستفتاء، سوف تكشف النقاب عن «الأرقام التي سيتم تحديدها في أماكن أخرى».
وأضاف «أن تصرفات المجلس الأعلى في شبه الجزيرة لا تكترث تماماً بحقوق ومصالح جميع المواطنين في شبه جزيرة القرم، بغض النظر عن قومياتهم، وتتجاهل تماماً حقوقهم في حرية التعبير، ليس لدي أي شك في أن الغالبية الساحقة من سكان القرم سيستجيب بشكل مناسب لدعوتنا مقاطعة الاستفتاء»، وأشار أيضاً إلى «أن إجراء الاستفتاء في ظروف تتواجد فيها قوات عسكرية في الشوارع، وعربدة قانونية كاملة ستساهم فقط في زعزعة الوضع».
يعتقد المتابعون للشأن الأوكراني أن التتار متوحدون تحت المجلس التتاري، بقيادة «تشوباروف» وبزعامة الأب الروحي وعضو البرلمان الأوكراني «مصطفى جميلوف»، الذي سيزور موسكو لملاقاة الرئيس «فلاديمير بوتين»، ومناقشة مستقبل شبه الجزيرة في ظل التغيرات السياسية الحالية، وكانت موسكو عملت في الآونة الأخيرة على تهدئتهم وإرسال تطمينات لهم من خلال إرسال رئيس جمهورية تتارستان والشيشان ووعدهم باستثمارات في المناطق التي يسيطرون عليها مع امتيازات سياسية جاءت على لسان رئيس وزراء شبه الجزيرة الموالي لموسكو.
السلفيون بالرغم من قلتهم، إلا أنهم يساندون الحركة الوطنية لتتار القرم التي أنشئت على عين الرئيس المخلوع «يانوكوفيتش»، والتي تدعو إلى التصويت بـ«نعم» على الاستفتاء، موقف يتشابه كثيراً مع موقف حزب «النور» في مصر، بالرغم من أن وسائل الإعلام الروسية تحدثت بتوجس في بداية الأزمة عن وجود مجموعات «متطرفة» سلفية داخل الصف التتري.
الخلفية التاريخية لخوف المسلمين
قد يعتقد البعض أن الأمر مبالغ فيه من قبل المسلمين التتار في شبه الجزيرة، لكن المشاعر المبنية على تاريخ معاش قد تتغلب في بعض الأحيان على التصريحات الرنانة والوعود الانتخابية.. المسلمون في هذه الجزيرة مروا بظروف صعبة، وبشكل جماعي تم ترحيلهم قسراً في عام 1944م من قبل «ستالين» إلى آسيا الوسطى، فوفقاً لـ«ستالين»، فإن التتار تعاونوا مع ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، كان عددهم حينها أكثر من 650 ألفاً ويمثلون القومية الكبرى في شبه الجزيرة، منذ سبعة عقود من اضطهاد ونفي وقتل وتشرّد 90% منهم، أصبح التتار المسلمون في جزيرة القرم أقلية داخل أغلبية روسية.
سمح لهم بالعودة إلى أرض الوطن بعد مرور أكثر من عشرين عاماً، لكن بعضهم وخاصة كبار السن، مع التجاذبات السياسية والصراعات القومية التي تعصف بشبه الجزيرة، يخافون أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء ويعيد التاريخ نفسه.
يذكر أن «القرم» شبه جزيرة تابعة لجمهورية أوكرانيا، وتعني كلمة القرم «القلعة» بلغة التتار، وهم قبائل من الترك سكنوا المنطقة قروناً، وقد خضعت القرم لحكم الخلافة العثمانية ودخلها الإسلام وانتشر فيها سريعاً منذ بداية القرن السادس عشر، وصارت ولاية إسلامية تابعة لها عاصمتها «بخش السرايا»، حكمها المسلمون قروناً حتى جاء الشيوعيون الروس وأهلكوا العباد والبلاد، أراد «ستالين» إنشاء كيان يهودي في القرم عام 1928م فثار المسلمون بقيادة أئمة المساجد والمثقفين فأعدم 3500 منهم!
تتمتع القرم بموقع إستراتيجي مهم، وفيها ثروات طبيعية (بترول، غاز، فحم، معادن..)، وثروات زراعية وأفضل المشافي العلاجية! يتصارع عليها اليوم الروس والأمريكيون؛ وذلك لأهميتها الإستراتيجية والاقتصادية.
ردود فعل غربية
حول أزمة القرم
وسائل الإعلام الغربية تتحدث تقاريرها عن أن روسيا ربما ستضم شبه جزيرة القرم إليها دون إطلاق طلقة واحدة من بنادقها ورشاشاتها، لكنها في المقابل سوف تكون الخاسر الأكبر من وراء ذلك، وهو ما أشار إليه كاتب عمود في مجلة «La Règle du Jeu» «جيل هرتزوج» بقوله: «إذا لم تتراجع روسيا في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، فإن هذا البلد الكبير والضعيف (اقتصادياً) سيخسر أكثر عند المواجهة مع المجتمع الدولي».
ويرى الكاتب أن روسيا باقتصادها النائم، وصناعتها الضعيفة ونظامها المالي المترهل والتركيبة السكانية المتراجعة، هي برأي الكاتب، عبارة عن «تمثال عملاق ذي أقدام من صلصال»!
تقول النائب في البرلمان الكندي «كريستيا فريلاند»، وصاحبة كتاب القرن «الاندفاع المجنون لروسيا من الشيوعية إلى الرأسمالية»، على صفحات «نيويورك تايمز»: إن الثورة غالباً تبدأ بالانزلاق في اليوم التالي، ولكن الثورة الأوكرانية الحالية تتمتع بشهر عسل طال أمده، وترجع ذلك للرئيس «بوتين» بقولها: إن تدخل «بوتين» في السياسة الخارجية والتجارية في أوكرانيا أثارت منذ البداية تمرداً، وللمفارقة، زاد من فرص النجاح على المدى الطويل للانتفاضة الشعبية.
قد يتصاعد هذا الصراع في أوكرانيا إلى حرب كبرى، وشبه جزيرة القرم ربما لن تصبح جزءاً من أوكرانيا إلى الأبد، ولكن «بوتين» ومفهومه السلطوي للفضاء السوفييتي السابق أين كانت السيطرة الكاملة لروسيا؟ قد فشل بحسب الكاتبة «فلايلاند»: إن أوكرانيا المستقلة الديمقراطية والفكرة الطوعية والمحترمة للقانون، بالرغم من الفوضى والتقلب الذي يعتريها قد ربحت المعركة.
المشكلة الأكثر حدة لكييف، حسب بعض المحللين الغربيين، هل ستكون هناك حرب؟ ويرون أن «بوتين» يخطئ في اعتقاده أن المواطنين الأوكرانين الناطقين بالروسية والمتحدثين بالأوكرانية يفضلون أن يصبحوا مواطنين في «روسيا بوتين».
وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «كوندوليزا رايس» في «الواشنطن بوست» تطالب بالحزم، وأن تكون الرسالة من الإدارة الأمريكية واضحة لروسيا؛ أننا لن نتسامح مع المزيد من الخطوات، وأن الوحدة الترابية لأوكرانيا أمر مقدس، هنا من المناسب العزلة الدبلوماسية، وتجميد الأصول وحظر السفر على أصحاب المليارات.. إن «بوتين» يعيد عقارب الساعة إلى الوراء بقدر ما تسمح به قوته العسكرية، والأدوات الاقتصادية والتقاعس الغربي.
وترى «رايس» أن هناك أدوات كثيرة للضغط على روسيا، فروسيا تحتاج الاستثمار الأجنبي، والكثير من الأموال مخبأة في الخارج من العائدات الإجرامية، وأن من يديرون روسيا وكذلك ميزانية «الكرملين» لا يتحملون انخفاض أسعار النفط، وتطالب «رايس» الرئيس الأمريكي «أوباما» أن يسمح بفتح خط أنابيب «كيستون أكس أل»، وأن يسمح بتصدير الغاز من الولايات المتحدة.. ينبغي – بحسب «رايس» – أن تصبح الأحداث في أوكرانيا دعوة للسياسيين الأمريكيين «للاستيقاظ»؛ لأن مصالح وقيم الولايات المتحدة يمكن أن تداس.>
في حوار مع صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الروسية، أكد الناشط في الحركة الوطنية لتتار القرم، وأحد الوجوه السياسية بين تتار القرم «وصفي عبدالرحيموف»، أن غالبية مواطني القرم سيصوتون بـ«نعم» في الاستفتاء القادم، وأرجع ذلك إلى الحالة القانونية «اليائسة» التي عاشها مسلمو القرم لمدة عشرين عاماً، ولم يتمكن عدد كبير منهم من تسوية وضعه القانوني بعد رجوعهم من المنفى.
ويرى «عبدالرحيموف» أن القوانين الروسية على النقيض من القوانين الأوكرانية، لديهم قوانين لتسهيل التعويض وتنظيم وضعية الشعوب العائدة من المنفى القسري والذين تعرضوا للقمع والقهر.. ويعتقد السياسي التتري أن تلك القوانين ستسهل عملية التجنس في شبه جزيرة القرم والعودة إلى الوطن التاريخي للشعب التتاري من كازاخستان وغيرها من بلدان آسيا الوسطى، ومن داخل روسيا أيضاً.
(*) باحث في الشؤون الإسلامية في دول الاتحاد السوفييتي السابق