الرحمة من صفات الله سبحانه وتعالى، وهي من خُلُق رسوله صلى الله عليه وسلم، ولها انعكاساتها على سلوك المسلم مع نفسه ومع أهله ومع أولاده وأقاربه ومع المؤمنين ومع الناس جميعاً، كما تؤثر على سلوكه في العبادات والمعاملات سواء بسواء. ومن يتدبر التشريع الإسلامي في مجال المعاملات الاقتصادية بصفة عامة، يجد آثار رحمة الله، بل يلاحظ أن الله يمزج بين الروحانيات والماديات في إطار متوازن ليحقق للإنسان الإشباع الروحي وهو غذاء الروح، والإشباع المادي وهو غذاء البدن.
ومن نماذج رحمة الله في المعاملات الاقتصادية على سبيل المثال ما يلي:
1- أحل الله الطيبات من الأرزاق لعباده: وذلك بهدف تعمير الأرض، كما أمره بالسعي للحصول على الرزق الحلال الطيب، وأصل ذلك قوله سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ {15}) (الملك)، وقوله سبحانه وتعالى: (وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ {88}) (المائدة)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً» (رواه مسلم).
2- أمر الله بالاعتدال في الإنفاق دون تقتير أو إسراف: فالوسطية في الإنفاق رحمة، والتقتير والإسراف شقاء ونقمة، وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى في وصف عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً {67}) (الفرقان)، ويؤكد هذا المبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلْ ما شئت، والبس ما شئت دون سرف أو مخيلة» (رواه البخارى ومسلم)، كما أمر الرسول الزوجة بالاعتدال في الإنفاق، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخادم مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً» (رواه الطبراني) وقال صلى الله عليه وسلم: «من فقه الرجل قصده في معيشته» (أحمد).
3- أوجب الله الإنفاق على الأهل والأولاد وذي القربى وجعلها رحمة وصدقة، وذلك لتقوية رابطة صلة الأرحام وتحقيق المودة والحب، ولتحقيق التكافل والتضامن، يقول الله تبارك وتعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ {215}) (البقرة)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» (رواه الدارمي)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة هو يحتسبها كانت له صدقة» (مسلم)، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «من أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة» (رواه الطبراني).
4- فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة رحمة بالأغنياء وبالفقراء، كما أنها تزكية للقلب وإصلاح للنفس وطهارة للمال وللمجتمع، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {103}) (التوبة)، وقال تبارك وتعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {60}) (التوبة)، ولقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث عن وجوب الزكاة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج لمن استطاع إليه سبيلاً» (رواه البخاري ومسلم)، وفي زكاة الفطر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين» (رواه أبو داود وابن ماجه). فمن رحمات الله فريضة الزكاة لأنها تغرس الأخلاق الطيبة في الناس، كما تساهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
5- حض الله على الصدقات: فهي رحمة بالأغنياء وبالفقراء، قال الله تبارك وتعالى في وصف المتقين: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177}) (البقرة)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يُرَبِّى أحدكم فلوه أو فصيله» (رواه مسلم)، كما حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقات الجارية التي تنفع المسلم بعد موته، فهي رحمة ممتدة له، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، وعلم ينتفع به» (رواه مسلم).
6- شرع الله الميراث رحمة للميت وللورثة والأقربين واليتامى: يقول تبارك وتعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {13} وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ {14}) (النساء)، ولقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم على الادخار لورثته فقال: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس..» (رواه البخاري ومسلم).
(*)أستاذ الاقتصاد الإسلامي