كثيرة هي الأحلام التي تصطف في أذهاننا، تزاحمنا حين تصفو دواخلنا، وتطفو حين نغرق في مشاهدنا اليومية، تُبقينا على أمل وأحيانا
كثيرة هي الأحلام التي تصطف في أذهاننا، تزاحمنا حين تصفو دواخلنا، وتطفو حين نغرق في مشاهدنا اليومية، تُبقينا على أمل وأحيانا تأسرنا بإنعاشها لعزائمنا، تغذي ما تبقى فينا من جروح الماضي وقروح الواقع، الأحلام هي اللحظة التي لا تكلفنا غير خيال سادر ورسوم تتكامل فيها أمانينا فتنسج مشهدا طالما أخبرتنا عنه التجارب بأنه سيكون أروع إن ناضلنا لأجله واستفرغنا وسعنا لتحقيقه حينها سنجني متعة الدأب لحلم قادم يسعى لنا أكثر من سعينا له!
على ضفاف ” سالم ” ذلك النهر الهادر وعيا وفكرا جلست مع ثلة من الأصحاب نقلب كنه هذا القادم من أرض الوحي يخبرنا عن “المدنية” التي استوعب عمقها حين عايشها في مهدها زهاء عقد من عمره ولم يودعها إلا وقد استوحى نموذجا للتعايش معها على أسس رصينة من أصالة وهوية، مر علينا ” سالم ” وكانت ” فسائل” أفكاره ترصع في أذهاننا كما الأحجار الكريمة حين ترص في عقودٍ ثمينة!
يتطرق ” سالم ” إلى الريادة الاجتماعية كعنوان في مسيرة استنهاض القطاع الثالث وتحقيق الفاعلية للبيئة المجتمعية التي تهتكت بتغول القطاع العام والخاص فأفقدته الكثير من المرونة والحيوية، يرى ” سالم ” أن النموذج الذي يتبناه وجاءنا بصندوق مليء بالقصص الملهمة من نجاحاتٍ شاركها أو التقى بروادها فأثرت رصيده وعمقت مكنونه .. يرى أن نموذجه كفيل بأن يحدث الأثر الذي تتوخاه منظومتنا الاجتماعية فتختصر الكثير من الجهود وتساهم في ترشيد المال المسكوب على إنجازات لا تقنع أصحابها!!.
تناول ” سالم” نموذجه الذي يجمع بين القطاع الثالث بما يمثله من مؤسسات مجتمعية والقطاع الخاص بما في جعبته من أساليب العمل التجاري القائم على الربحية و توفير الخدمات وصناعة المنتجات في مواءمة نوعية تصب في خدمة المجتمع وتحسين ظروفه وتوفير متطلبات استقراره وإنتاجه، بهذا ينقل في تصوره مؤسسات القطاع الثالث من حالة ” الاستجابة ” التي تشكل الحد الأدنى من العطاء إلى ” المبادرة ” التي تعد الفاعلية القصوى لأداء الأفراد والمؤسسات، وفي لحظة ما ستحدث مزاحمة تنافسية ستولد أفضل الخيارات والبدائل للتعامل مع تحديات الواقع والمجتمع!.
إن التمكين الذي ينشده “سالم” لمؤسسات القطاع الثالث بهذا النموذج – المجرب – يمثل وصفة ناجعة لداء البيروقراطية الذي انتقلت عدواه من الأداء الرسمي المترهل والمثخن… ، وهو بهذا “الفتح” للنوافذ المتكلسة يعالج إرباك تباين الأجيال في بعض هذه المؤسسات التي كادت أن تختنق من الهواء الآسن بفعل التخثر والتخمر حين لا يستوعب الجيل الصاعد رَوِيّة الشيوخ وخبرتهم ولا يعي في المقابل الكبار معنى ألا تعيش المرحلة أكثر مما ينبغي!.
الجميل في طرح ” سالم ” أنه معجون بالأمثلة والقصص الملهمة وهو يؤكد أن نماذج مؤسسات الريادة الاجتماعية بلغت في بريطانيا – على سبيل المثال – 62 ألف مؤسسة بات سوقها يشكل 5% من الناتج العام وهو ما يعادل 24 مليار جنيه استرليني، أنا هنا لا أتحدث عن التطوع إنما عن نمط مغاير في الأداء الاجتماعي برغم أن قنواته تصب أهدافها وغاياتها في ذات المجرى فالتطوع له مزيج آخر يتحدث عنه ” سالم ” بلغة الأرقام فيذكر أن 95% من المجتمع الكندي يساهم بتقديم خدمة اجتماعية بما لا يقل عن 12.30 ساعة في العام مجموعها يصل إلى 2.1 بليون ساعة تغطي كلفة 1.1 مليون موظف وأحد الأسباب الرئيسية تكمن أن أحد أهم متطلبات المنهج الدراسي يتضمن ساعات تطوع!، أمام في المجتمع الأمريكي فإن العام 2009 قدم 63.4 مليون متطوع 8.1 بليون ساعة تكلفتها 169 بليون دولار في ذلك العام… نحن أمام حقائق صادمة وفجوة تحتاج لردمها كم من الجهود المجتمعية قد يكون من بينها النموذج الذي أطل به ” سالم “.
ليس غريبا أن نستذكر بواكير قيام مجتمعاتنا العربية والإسلامية فإن الريادة الاجتماعية كانت لها حظوتها وحضورها أذكر أن التعليم والاستشفاء بل والبلدية – الكويت على سبيل المثال – كانت مبادرات مجتمعية جاءت لتلبية حاجات الواقع حينها وحققت النفع والاستدامة لجيلها، وإذا توقفنا على تاريخنا الحضاري نجد أن لهذه المؤسسات الخدمية حضورا غامرا تحت مظلة الأوقاف الإسلامية بعيدا عن سلطة القطاع العام أو هيمنة الخاص!.
” سالم ” يرى أن المجتمع المسؤول هو الذي تتوازن فيها القطاعات الثلاثة من غير أن يبغي قطاع على آخر بل تتكامل الأدوار ، في بريطانيا تبدأ المبادرات من القطاع الثالث ثم تأتي الدولة لتبنيها وهي عندما ترغب بإنشاء مدرسة على سبيل المثال فإنها تطرحها للقطاع الخاص والثالث كذلك وهكذا دواليك تستمر دورة الحياة وتنمو عبر مؤسسات جديدة وخدمات ذات قيمة مضافة في ظل بيئة تنافسية.
آمل ألا أكون قد زدت في إرهاق أحلامكم لكنني أرى أن أحلام ” سالم ” ليست عن الواقع بعيدة ولعل السبب يكمن في أن كثيراً من أحلامنا عندما نجتهد في ترجمتها إلى حقائق فإنها تتحقق وأحيانا بصورة أفضل من أحلامنا..!.
s-madwani@hotmail.com