ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم
كانت لعبتها المفضلة مع الدنيا لعبة الشد، فالدنيا تشد وهي تستجيب، وتسير معها أينما ذهبت، فقد تخرجت من الجامعة التي دخلتها بما أملاه عليها مجموعها، وتخرجت بتقدير عالٍ، فتابعت دراستها من ماجستير إلى دكتوراه، مع بيت وأولاد وزوج، فلم تترك لها الدنيا لحظة لتتوقف قليلاً، وتتفكر إلى أين هي ذاهبة؟ ثم تم تعيينها أستاذة في الجامعة.
كانت وكأنها تعمل بالـ«ريموت كونترول» الذي تحركه الدنيا، تستيقظ صباحاً لتشرف على خروج الأولاد لمدارسهم وتتجه لسيارتها في نفس التوقيت، وتقف بالساعات في مدرج الجامعة، لتقول نفس الكلمات، وتذكر نفس العبارات، وفي نفس التوقيت ترجع إلى منزلها من نفس الشوارع، لتمارس نفس مهامها، من تدريس للأولاد، إلى بعض المشتريات، إلى نوم لتستيقظ في الصباح على نفس الوتيرة.
كانت تصلي بحركات حفظتها، كما كان الآخرون يصلون، أما القرآن فلم تكن تصادقه، إلا في شهر رمضان فقط يتعارفان ولا تنشأ بينها وبينه صداقة، فيشتاق لها ولا تشتاق له طوال العام. شعور زائف: كانت تشعر بينها وبين نفسها أنها تؤدي واجباتها كاملة تجاه ربها وتجاه زوجها وأولادها وغيرهم، وأنها لم تقصر فى شيء من هذه الأمور، وأن تصرفاتها وأعمالها «مثالية» لأنها دائماً ما تحكم ضميرها في كل صغيرة وكبيرة، ولذا فلم تشعر أنها بحاجة لتتعلم تفاصيل دينها سواء بالقراءة أو حضور مجالس العلم، وظلت هكذا حتى بلغت سن التقاعد وكبر الأولاد، وفجأة بدأت تبحث أين هي من هذه الدنيا؟ وما موقعها من الإعراب؟ وإلى أين تذهب؟ سألت كثيراً، وحضرت الكثير من الندوات لمختلف الأطياف والمشارب، وكلما حضرت واحدة منها تكتشف أن هذا ليس مبتغاها، فتتحول إلى غيرها، ولا يخطر في بالها أصلاً أن كتاب الله من الممكن أن يجيبها عن الكثير من أسئلتها، فهو بالنسبة لها كتاب تتبرك به وتضعه في سيارتها وتحت وسادتها، وأحياناً تجعل من صوت أحد القراء، بلبل منزلها.
الإفاقة من الغفلة
حتى جاء يوم كان عليها أن تقوم فيه بواجب العزاء، وتطوعت إحدى الموجودات بتفسير آية، كانت قد قُرِئت على مسامعهن جميعاً للتو:{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ “1” الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ “2” وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ “3”}(المطففين).
ذوقياً، لم تقم وظلت تستمع، وكان شرحاً عجيباً بالنسبة لها، فقد عممت المتحدثة معنى التطفيف على كل ما يقابله المرء من أمور، ومن ضمن ما قالت: إن المرأة عندما تزوج ابنتها تختلف تماماً في طلباتها عنها عندما تزوج ابنها، فما حصلت عليه لابنتها لا تريده لزوجة ابنها، وكذلك تريد من زوجها جميع حقوقها، ولا تجد أن هناك ضرورة لأن يحصل على كل حقوقه منه، فيكفيها ما تعطي وعليه أن يحمد ربه على القدر الذي يأخذه، ففلانة وعلانة لا تفعل ما تفعل هي، وقالت: إن هذا من التطفيف، وأيضاًًً تريد من أقاربها وصديقاتها مجاملتها في كل مناسباتها، ولا تلتمس عذراً لأحد، ولكن لا بأس أن تقصر هي هنا أو هناك، ويا ويل من يعاتبها.
هنا فقط أفاقت الأستاذة الدكتورة من غفلتها، ورجعت لتبحث بشكل جاد عما قالته السيدة، فما قالته ليس بعيداً عن بعض تصرفاتها، وكان عليها أن تحصل على كتاب يشرح لها تلك الآيات ولكنها لم تجده بمنزلها، فاستعارت أحد هذه الكتب وجلست تتصفح الكتاب وتلتهم السطور، وأخذت تنقب في ذاكرتها وتخرج ما احتوته من حياتها، لترى نفسها لأول مرة في مرآة الحق، عندها اكتشفت أنها قد تكون من هؤلاء المطففين الذين تشملهم الآية الكريمة.
ميزان مائل
تذكرت مثلاً أنها في مرة من المرات عندما أحضرت أوراق امتحان الطلبة معها إلى منزلها لتقوم بتصحيحها، رسب أحد الطلبة على درجة واحدة فقط، فألح ولدها عليها أن تهب الطالب هذه الدرجة لينجح، فقالت له بحزم: إن التصحيح هذا كالميزان تماماً لا نبخس منه شيئاً، ولا نزيد عليه شيئاً، ولكنها عندما دخل نفس الولد إلى الجامعة، واستطاعت معرفة نتيجته من «الكونترول»، وعلمت أنه راسب على درجة واحدة أيضاً، اتصلت بأستاذ المادة، وهي ثائرة: على درجة واحدة يرسب الولد، وأخذت تجادل أستاذ المادة وتلح عليه أن يعطي ابنها هذه الدرجة.
ذهلت السيدة عندما تذكرت أيضاً أن ابنها وقتها قال لها: أهذه عدالة المسلمين يا أماه، لقد بخلت بدرجة تعطيها لطالب لكي ينجح، والآن تلحين على زميلك أن يفعل من أجل ولدك ما استنكفت أنت عن فعله؟ استغرقت بعض الوقت لكي تسترجع رد فعلها الداخلي تجاه كلام ابنها، لقد قالت له: هذه أمور لا تدركها أنت حالياً، وحين تكبر ستفهم، أما من داخلها فقد فوجئت بمقالة ولدها، وأخذت تبحث في داخلها عن مبرر لتصرفها، مثل أنه لا أحد يدرك مشاعر الأم تجاه ابنها إلا أم مثلها، وأنها طلبت من زميلها، ولم تقم هي بهذا العمل والقرار قرار زميلها ليس قرارها، أي أن ما فعلته حقيقة كان مجرد مراجعة لزميلها في قراره، والغريب أنها أنست لهذه المبررات، ولم تجد غضاضة وقتها في تصرفها، ولم تشعر بأي تأنيب للضمير. تذكرت هذه الواقعة، وأخذت تتحدث مع نفسها بصدى صوت سمعه عقلها ليدرس ويحلل: ترى أكانت المبررات التي ساقتها لولدها ولداخل نفسها مبررات حقيقية معقولة أم أنها كانت تخدع نفسها وتعمى عن أن ترى الحقيقة، وهنا خطر على ذهنها سؤال:
لو كانت هي أستاذة تلك المادة أكانت تهب ولدها تلك الدرجة؟ وجاءتها الإجابة من داخلها: نعم وبلا تردد، لقد تبدت الحقيقة أمام عينيها؟ أي ميزان هذا الذي كانت تقوم بالتصحيح به؟ ميزان، هه، نعم ميزان على غيرك، أما على ابنك فطففي ولا حرج.
وأخذت تناجي نفسها ما هذا الويل الذي يتوعدني به ربي؟ وهل ينقذني ولدي؟ وهو بالكاد يسأل عني بعد أن كبر وأصبحت له حياته الخاصة، فقد أذهلته الدنيا، وسلم لها قياده كما فعلت أنا تماماً. لؤلؤ مجدول قد كانت الآية آية الخير عليها، فقد أصبح القرآن بالنسبة لها بعد ذلك كاللؤلؤ المجدول، اتخذته كالمسبحة تحرك حباتها، ولا تنتقل للثانية إلا بعد إحصاء الأولى، وبدأت تجد إجابات للكثير من أسئلتها التي كانت تثور في عقلها، ولا تجد وقتاً أو اهتماماً للوصول إلى إجابات عنها، استغفرت كثيراً عن غفلتها وزهدها في هذا الخير العظيم (القرآن)، وحمدت الله كثيراً على تيقظها قبل فوات الأوان، وانتظمت في حلقة أسبوعية لتلاوة وتفسير القرآن لعلها تطلع على أخطائها، وتعدل من مسارها وما لم يلحقه قطار عمرها على الأقل تستغفر عن تقصيرها فيه بحق خالقها. كانت تلك قصة الأستاذة الدكتورة التي سمعناها منها في أحد الدروس.
أمر جلل
أما محطتنا الثانية، فهي مع سيدة تحرص على حضور الدروس، وتلاوة القرآن ولكن تلاوة لا تتجاوز الحناجر. بعد نهاية أحد الدروس التي ألقيتها أرادت أن تختلي بي، وقد كان التأثر الشديد واضحاًًً جلياً على محياها، قالت لي بهمس غير مسموع: رجاء أريدك في أمر جلل، فوافقت على الفور لشعوري أن وراءها قصة، وبدأت تنفض جلباب همها، وحزنها، فرأيت في محتواه ما جعل هذا الحزن يتسرب إلى نفسي، حيث قالت: أختي أريد التوبة إلى الله وذنبي لا بد فيه من رد الحقوق إلى أصحابها، وإن فعلت سيصيبني أذى كبير، وأعلم أن التوبة راحة، وليست عذاباً وإلا ما تبنا ولا رجعنا. منذ فترة ليست بالقصيرة تعرفت على سيدة تمتاز بكثير من المزايا التي لا يتوافر عندي مثلها، وكان زوجي يردد دوماً على مسامعي:
ليتك تكونين مثل فلانة، ليتك تتخلقين بسلوكياتها، وتعلمين أختاه أن المرأة قد ابتليت بالغيرة، التي احتوت صدري فاشتعل بلهيبها، فأردت التخلص منها، فارتكبت أمراً أخذ مني راحتي وسكينتي وذهب حيث ذهبت، وتوقفت قليلاً وهي تسبح في بحر مأساتها، ثم أردفت: فكرت كثيراً كيف أتخلص منها، وكان هذا هو شاغلي، وجاءني الشيطان من حيث ما أحب وأرغب، ولم أستطع أن أنهي نفسي عن الهوى، فوقعت في شراك شيطاني، بدأ يلف حولي خيوطه بإحكام حتى لم أعد أرى خارج شرنقتي التي اعتقلني فيها بعيداً عن أي أخلاقيات أو سلوكيات، أو بديهيات أو أي شيء ممكن أن أكون قد تعلمته في حياتي، فقد افتريت عليها افتراءً تسلطت على زوجها، فصدقني وأخذ بلب عقله فطلقها. هول المفاجأة تسمرت عيناي عليها، وكأني وإياها بمفردنا في هذه الدنيا، فمن هول المفاجأة، شعرت أن هذه اللحظة قد توقف عندها الزمن، وأخذت أتفرس فيها، فوجدت الانكسار والندم يكسوها بالخزي والرجاء.
أكملت بقولها: ستقولين لي لابد من إخبار زوجها بالحقيقة حتي يغفر لي ربي، أتعلمين أنني إن فعلت ذلك سيطلقني زوجي على الفور، وسيفقد الثقة في كل شيء، فهو يثق في كل كلمة أتفوه بها، وعندي أربعة من الأولاد الذكور، لن أستطيع أن أنظر إلى عيونهم، ولي أخوات كثر لن أستطيع أن أخالطهن، أو أن أحضر معهن، أو أن أشاركهن أي شيء، ما يعني أن توبتي ستكون نهايتي، فهل يرضى الله بذلك لمن جاءه تائباً خاضعاً خاشعاً، فقط أريد مخرجاًً رحيماً. أمسك الصمت بلساني ولم أستطع أن أحركه فقط مجرد حركة لأرد عليها، ففي بوتقة الشيطان انصهر زوج صديقتها الذي أراه وقد تعجل ولم يتحقق.
يمكن أن يقول قائل: ولكن من قالت ذلك ليست بفاسقة، إنها سيدة فاضلة ويشهد لها زوجها أنها لا تكذب، نقول هذه شهادة واحدة، أين ما يعضدها من شهادات؟ يطلق امرأته بشهادة امرأة واحدة، وقد أمر القرآن بغير ذلك وهي آية في حفظ الحقوق المادية، فما بالنا في حفظ كرامة الإنسان، وصيانة عرضه، كيف استطاع زوج المفترية أن يبلغ زوج البريئة بدون تحقق، مهما كان من يقول؟ لماذا لم يطبقوا الآيات والأحاديث وفعل الصحابة؟!
لماذا نقول نحن مسلمون ولا نفعل ما يفعله المسلم ولا نتخلق بأخلاقياته لماذا؟ وكيف؟ أخذتني بعيداً بعيداً، إلى حيث الدار الآخرة، فحمدت الله أن عافانا وسألته الستر والرحمة. البحث عن مخرج كل ذلك، والأخت تنتظر مني إجابة، وكأنها في بحر لجي تنتظر يداً حانية لتتشبث بها، قلت لها: يقيناً لك مخرج، فقد غفر سبحانه لمن قتل مائة نفس، وغفر لموسى عليه السلام وقد وكز الرجل فقتله، وغيرهم كثير كانت للناس عليهم حقوق لعل الله يتحملها عنهم، ونحن ندعو:
«اللهم ما كان بيني وبينك فاغفره لي، وما كان بيني وبين الناس فتحمله عني»، فليتك تتصلين بأحد أعمدة الفتوى ليفيدك، فما عندي من علم يقف فيه سؤالك صخرة كؤود، لا أتحمل تخطيها، ونظرت إلى الدنيا وما فيها وهتفت كم تحملين يا دنيانا من أسرار.
وخشع قلبي لرب يكفيه سبحانه أنه بذنوبنا خبير عليم، يطعم ويسقي، ويحفظ ويرعى، ويمهل ويتوب على من يشاء كيفما شاء، فله الثناء والحمد.