لشهر رمضان المبارك مكانة مكينة في قلوب المسلمين، ويقف وسط شهور العام مضيئاً باسماً متألقاً.
لشهر رمضان المبارك مكانة مكينة في قلوب المسلمين، ويقف وسط شهور العام مضيئاً باسماً متألقاً.
وعلى الرغم من الظروف الخاصة التي تفرضها فريضة الصوم، الركن الرابع من أركان الإسلام، على الصائمين من حرمان من الحلال، واضطرار للجوع والعطش، فإنه يفتح خزائنه للمسلمين؛ فيطهرهم بالذكر والدعاء، ويفرحهم بمضاعفة الأجور، ويكرّمهم بقصر المكافأة على الصوم على الله عز وجل، وهو الذي لا تنتهي خزائنه الغني الكريم الواسع العليم.
القاهرة.. بين ظلال الصيام ونار الحرب العالمية
ظهر شهر رمضان المبارك في عدة روايات عربية، وجاء الفضاء الزمني الرمضاني ليخدم الرواية من ناحيتي الشكل والمضمون.
هناك روايات دخل شهر رمضان المبارك فيها بأجوائه الروحية الخاصة ليصبح مرآة تنعكس عليها العادات والتقاليد الاجتماعية، ومن ناحية أخرى تبدو الفرصة مواتية لعرض الجانب الروحي والنفسي للشخصيات خلال الصوم، وكذا سلوكها في مناسبات رمضان المختلفة، رمضان إذن هو جزء من نسيج السرد الروائي، لا ينفصل عنه، ولا يفرض عليه.
وهناك نوع آخر من الروايات يبدو فيها شهر رمضان خلفية للأحداث الروائية، ومساحة زمنية واسعة تدور الأحداث داخلها دون تحقق، ذلك الامتزاج الدال على الشخصية، أو الراصد لأبعادها النفسية.
وإلى النوع الأول “رمضان جزء من النسيج الروائي” تنتمي رواية “خان الخليلي” عام 1946م لنجيب محفوظ، والتي رصد فيها حياة بطل روايته بين حيين من أحياء القاهرة؛ حيث انتقل من العيش في حي “السكاكيني” إلى العيش في “خان الخليلي”، وما بين شعبية الحي الأول والرقي النسبي للحي الآخر رصدت الرواية تطور علاقة أحمد عاكف بالناس وبنفسه، ومحاولته التغلب على الانطواء الذي يسم شخصيته.
وقد صورت الرواية من خلال أحد أحياء القاهرة ظروف الحرب العالمية الثانية ومدى تأثيرها على مصر، وقد برز الشهر الكريم في الرواية بشكل واضح ممثلاً للحيز الزمني للرواية، وهو ما استدعى إلقاء الضوء على الشخصية من خلال علاقتها بالأجواء الروحية الرمضانية من ناحية، وكانت الفرصة طيبة لتقديم القاهرة الرمضانية في نهارها وليلها من ناحية أخرى.
ثم كانت ليلة القدر من الشهر المبارك؛ فاحتفلت بها الأسرة احتفالاً بدا في الدجاجة المحمرة التي ازدانت بها سفرة الإفطار، وصينية الكنافة، وعند العشاء راحت الست دولت تدعو لبعلها بالصحة ولولديها بطول العمر والسعادة، أما عاكف أفندي – الأب – فذهب إلى مسجد سيدنا الحسين لشهود احتفال رابطة القراء بالليلة المفضلة؛ فكانت ليلة سعيدة، وقبل يأووا إلى أسرتهم قبيل الفجر أطلقت صفارات الإنذار فارتدوا معاطفهم، وهرعوا بين جميع السكان إلى المخبأ.. “( 1).
رمضان المبارك خلفية للرجل والبيت
على نحو مغاير جاءت رواية “في بيتنا رجل” عام 1957م لإحسان عبد القدوس، وجاء رمضان المبارك خلفية زمنية، ووعاء للأحداث، غير أن انعكاس روحانيات الشهر الكريم على شخصيات الرواية لم يكن واضحاً، ولم يستثمر رمضان بخصوصيته في إضفاء التحليل النفسي للشخصيات أو إبراز الجانب الإيماني لها، لاسيما والرواية تعرض لسيرة مناضل يقدم نفسه في سبيل حرية وطنه، لكن الرواية قدمت الشخصية البطل (إبراهيم حمدي) باعتباره شخصية وطنية دون التركيز على الجانب النفسي والخلقي لها.
ومنذ اللحظة الأولى للرواية يطل علينا شهر رمضان:
“أحد أيام شهر رمضان.. والساعة الخامسة مساء.. قبل الإفطار بساعة ونصف ساعة.. وكان جالساً فوق فراشه بإحدى غرف مستشفى قصر العيني.. غرفة خاصة يقف على بابها جنديان من جنود البوليس يحمل كل منهما بندقية”(2).
وتبدو الرواية دافعة شهر رمضان إلى السير بالتوازي مع الأحداث دون تقاطع واضح بينهما، حيث بدا الحديث عن الشهر الكريم نمطياً سطحياً، أو تقليدياً غير مؤثر، لم يستفد منه البناء النفسي للشخصية، وكانت الظروف النفسية للمناضل الهارب مواتية لتحليل نفسيته المضطربة وهو مطارد، فكان بإمكان السرد أن يدفعه إلى الاستئناس بالذكر والدعاء، والاحتماء بالأجواء الإيمانية العالية في نهاره ولياليه.
فما ورد من أوصاف رمضانية كان يمكن فصله عن الإطار السردي دون مشكلة تخل بالتدفق السردي:
“كانت العائلة مجتمعة كعادتها عقب الإفطار في غرفة “القُعاد” والراديو يلقي إليهم أغانيه، الأب في جلبابه الأبيض الفضفاض وفق رأسه الطاقية الخفيفة التي لا يخلعها إلا ليضع مكانها الطربوش، وقد جلس على الأريكة “الاستامبوللي”، ووضع ساقه تحته واتكأ على أحد مرفقيه وبين يديه جريدة “الأهرام”، يطل فيها من وراء نظارته الذهبية، ويعيد قراءة مقال سبق أن قرأه عقب عودته من الديوان، وأمامه مائدة صغيرة، عليها كوب شاي فارغ، بقي في قعره بعض التفل الأسود، وكانت الأم الطيبة مكتنزة وبين شفتيها ابتسامة هادئة كأنها قطعة من فمها، جالسة على الطرف الآخر من الأريكة وبجانبها علبة الخياطة، وبين يديها مجموعة من الجوارب ترتق فيها، وكان محيي جالساً على مقعد أسيوطي كبير، حتى ليتسع لشخص آخر بجواره، وكان يقرأ كتاباً ويرفع إصبعه بين الحين والحين ويضغط على قنطرة نظارته الأمريكاني، دون أن يكون في حاجة إلى الضغط عليها.. مجرد حركة تعودها، وكانوا كلهم صامتين صمتاً هادئاً مريحاً، كل منهم متفانٍ في هضم طعام إفطاره بعد صيام يوم طويل…”(3).
المقطع السابق إذن ينتهي بنا بعد وصف حال أفراد الأسرة جميعاً إلى شعورهم بالراحة والسعادة بعد صيامهم ليوم جديد من الشهر الكريم، تلك الراحة النفسية، التي لم تكن تنتظر الزائر الذي يجعلها تعيش بقية أيامها معه فوق لهيب الترقب.
عندما يصبح شهر رمضان بطلاً للرواية
أضفى شهر رمضان المبارك على نصر العاشر من رمضان 1393هـ/ السادس من أكتوبر 1973م هالة من القدسية والروحية، لاسيما وقد خاض الجنود حربهم ضد اليهود وهم صائمون، وهو الأمر الذي هيأ للربط بين هذه الحرب الحديثة وغزوة “بدر” المباركة عام 2هـ التي حدثت أيضاً في السابع عشر من رمضان.
الزمان الرمضاني للمعركة في القرن العشرين كان ملهماً للروائي د. نجيب الكيلاني، فقد قدم روايته النادرة “رمضان حبيبي” عقب حرب العاشر من رمضان، ليقيم بها تلك العلاقة بين الاستقامة والنصر، بين التدين والقوة.
ويبدو المشروع الفكري للدكتور الكيلاني مبشراً بمثل هذا الإنتاج، فهو قامة سامقة من قامات قليلة أخذت من الواقعية الإسلامية مذهباً أدبياً، أسست له وكافحت من أجله، وقد نعت نجيب محفوظ في أحد مقالاته نجيب الكيلاني بأنه من رواد الواقعية الإسلامية ومنظر الأدب الإسلامي، معللاً حكمه بقوله:
مقولاته النقدية، وأعماله الروائية والقصصية، تشكل ملامح نظرية أدبية لها حجمها وشواهدها القوية، التي عززتها دراساته حول “آفاق الأدب الإسلامي”، و”الإسلامية والمذاهب الأدبية”، و”الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق”، و”مدخل إلى الأدب الإسلامي”، و”تجربتي الذاتية في القصة الإسلامية”(4).
رمضان حبيبي.. انتصار السيف بعد هزيمة النفس
اختلفت رواية د. الكيلاني عن غيرها في إفساحها المجال لشهر رمضان ليخترق الرواية كاملة، لا هو زينة، ولا هو خلفية للأحداث، بل لم يأتِ حتى لتفسير سلوك الشخصيات وتفاعلها مع الشهر الكريم.. جاءت الرواية لتقدم الشهر الكريم في لوحة بانورامية احتفالية، مستفيدة بالنصر الحربي التاريخي.
ويكننا القول عن رواية نجيب الكيلاني الملحمية: إنها اعتمدت تقنية “المعادل الموضوعي”، وأنشأت خطين متوازيين على طول السرد: الخط السياسي (الهزيمة – الاستنزاف – النصر)، والخط الإنساني (أحمد يود زواج جليلة – جليلة تحب فتحي المنحرف – التزام جليلة دينياً وزواجها من أحمد).
رواية الحب والنصر
والرواية الواقعة في نحو 130 صفحة تعرض لتجربة الشاب “أحمد عبدالفتاح” الذي نشأ وسط أسرة ملتزمة، ووالده معتقل لخلفيته الدعوية، وتدشن الرواية لشخصية بطلها ببث المواقف الدالة على التزامه وصلابة شخصيتها، ومن ثم يكون طبيعياً أن يمثل أحمد ذلك الجندي الذي انتصر على اليهود في معركة العاشر من رمضان الفاصلة، فالرواية تومئ إلى أن نصرة الأوطان تمر بالنصر على النفس وترويضها بالالتزام والاستقامة.
بدا حب شهر رمضان مفتاحاً لشخصيات الرواية الرئيسة، مصدراً للفرحة، وسبباً للإلهام، وبشرى تفاؤل وارتياح للمستقبل أيضاً:
“لحد ما كانت سعادة أحمد وهو يتجول في شوارع القاهرة في الليلة الأولى من رمضان، هذه الفرحة الكبيرة لازمته منذ الصغر أيام أن كان في حي الحسين، وفي حي السيدة أيضاً، وفي رمضان يذكر أحمد أن المعركة الأساسية التي وضعت اللبنات الأساسية في مجد الإسلام… معركة بدر.. كانت في رمضان وفتح مكة أيضاً… ويضحك أحمد ويخفي ابتسامته الخجول ويتمتم: الغريب أني رأيت جليلة أول مرة وهي تتزعم مجموعة من الصبايا يتغنين برمضان ويرحبن بمقدمه”(5).
هذه المودة بين بطل الرواية وشهر رمضان المبارك التي تنظم حياته وكيانه، وتخترق ذكرياته، بل ذلك المزج بين روحانية رمضان المبارك باعتباره شهر عبادة، وبين كونه مسرحاً لبطولات المسلمين منذ معركتهم الأولى بدر، كل هذا يدشن لشخصية البطولة الإسلامية على أرض الواقع، والتي استطاع السرد من خلال تجربتها لعرض المفهوم الإسلامي للحرب – باعتبارها تمرة لعقيدة راسخة تعنى بإعداد القوة ورباط الخيل، ورمضان مع كل هذا كان ملتقاه بمن أحب حين طالعها طفلة تحتفل بقدوم رمضان.
رمضان حبيبي بين الواقع والرمز
وعلى سبيل تأويل الرمز، تبدو جليلة ممثلة مصر وقد تجاذبها تياران: تيار إباحي ماجن سعت خلفه يخدعها بريقه ومظهره (فتحي)، وتيار آخر يقودها نحو الاستقامة والرشاد (أحمد)، وعلى الرغم من ارتباطها بفتحي في البداية، وعدم ارتدائها الزي الشرعي، فإن الأحداث تقودها إلى الاقتناع بطريق الالتزام والارتباط بأحمد البطل الذي ارتبطت به وتحقق معه النصر (النصر على “إسرائيل”) في الجبهة، والنصر على أعداء القيم والثقافة الإسلامية الراشدة في الداخل (فتحي):
“عندما التقت جليلة بمدير السجن أخبرها أن فتحي عضو في شبكة تجسس خطيرة، وأنه كان حلقة اتصال بين بعض الخونة في الداخل – ومعظمهم من الأجانب – وبين الخونة في الخارج”( 6).
وبعودة جليلة نحو الاتجاه الآخر مرتبطة بالشاب المتدين والبطل الوطني الذي خاض الحرب بطلاً وتم أسره في معسكرات العدو لتحافظ على ثباته وصيامه، ثم هو يلتقيها في نهاية الرواية بعد انتصاره العظيم في الجبهة، وجهادها في تمريض الجنود، ثم هما يتبادلان الحديث حول الارتباط، ليحدث القبول بينهما، ثم هو يشترط عليها الالتزام بالزي الشرعي مؤكداً لها أن الشكل لابد أن يوافق المضمون فتوافق:
“قالت وهي تخفض رأسها في حياء: موافقة.
– صاح بطريقة أفزعتها: بشرط.
– ما هو؟!
قال أحمد: الزي الشرعي.
– هذه مسألة شكلية.
– الشكل والمضمون يا جليلة كيان واحد.
طأطأت رأسها ثانية وقالت: موافقة.
أخرج المصحف من جيبه ثم وضعه فوق أيديهما وهو يقول: “هذا عهد الله” (7).
============================================
هوامش :
1- رواية “خان الخليلي”، ص 97.
2- رواية “في بيتنا رجل”، ص 7.
3- “في بيتنا رجل”، ص 33.
4- مجلة “المصور”، عدد أكتوبر 1989م.
5- رواية “رمضان حبيبي”، ص 50.
6- رواية “رمضان حبيبي”، ص 77.
7- رواية “رمضان حبيبي”، ص 127.