لا نريد أن نختصر عودة إسرائيل إلى قصف قطاع غزة ومدنه -بعد “مناورة” المفاوضات- في مسألة جمع المعلومات الكافية قبل إعادة الكرّة ومهاجمة “بنك أهداف” جديد في غزة، وإن كان يبدو للناظر العَجِل أن تل أبيب هكذا وظفت المسألة تماما، ذلك لأن العودة إلى التدمير
لا نريد أن نختصر عودة إسرائيل إلى قصف قطاع غزة ومدنه -بعد “مناورة” المفاوضات- في مسألة جمع المعلومات الكافية قبل إعادة الكرّة ومهاجمة “بنك أهداف” جديد في غزة، وإن كان يبدو للناظر العَجِل أن تل أبيب هكذا وظفت المسألة تماما، ذلك لأن العودة إلى التدمير والقصف تنم عن نفسية السياسيين والعسكريين الإسرائيليين وطبيعة الموقف الذي يعيشونه الآن، والإستراتيجية التي اختاروها للخروج من الأزمة.
فرص تفاوضية
لا تنكر إسرائيل أن “العصف المأكول” قد هزم جرفها الصامد، إلا في تصريحات تخرج من تل أبيب مرسلةً لهذا المسؤول أو ذاك تسكينا لغضب الشارع الإسرائيلي، وحتى لا تبقى للمفاوض الفلسطيني مساحة للطمع في مزيد من المكاسب.
وقد تبادل الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي القول بأننا “لن نعطي خصمنا فرصة ليكسب بالمفاوضات ما عجز عن كسبه بالحرب”، إلا أن توظيف العبارة والسبق إلى استعمالها جاء فلسطينيا أكثر وأليقَ منه إسرائيليا بامتياز.
والشعور الإسرائيلي العميق بالهزيمة وما يصحبها من مهانة هو شعور من يملك في الواقع آلة تدميرية ضخمة، هي آلة الجيش الإسرائيلي المعروفة، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يسمح بأن يغلبه هذا الشعور دون أن يفكر في العودة إلى كنزه المدمِّر الذي يحمي به كيانه غير الطبيعي.
ووسط هذه الظروف الميدانية والنفسية وضعت المفاوضات إسرائيل في زاوية حرجة، ووضعت أمامها خيارات ليست كثيرة، خاصة بعد أن أصر الفلسطينيون مدعومين بسلاح المقاومة على أن تعامَل مطالبهم باعتبارها حزمة واحدة لا ينفصل عُود منها عن صاحبه، فإما قبولها جملة، أو ردها جملة، مع تهديد من المقاومة غير مستتر بأن الخيار الثاني سيعني حرب استنزاف تشل أركان الدولة العبرية لأمد غير معلوم.
فهل حاولت إسرائيل بالعودة إلى الحرب أن تحقق على الأرض مكاسب تحسّن فرصها التفاوضية؟ قد يكون هذا رأي بعض ساسة إسرائيل، إلا أنه لا يبدو أن الأفق مفتوح أمامهم في هذا الاتجاه، لأن شروطه غير متوفرة في يد نتنياهو وفريق عمله السياسي والعسكري، وذلك أن تحقيق هذا الهدف رهن بتحقيق تقدم نوعي في ساحة القتال، ولن يتحقق هذا إلا في مدى زمني طويل لا تتحمله إسرائيل التي تتعطل فيها الحياة لمجرد إطلاق عشرات من الصواريخ على مدنها وبلداتها ومستوطناتها.
وقد كانت الجولة الأولى للحرب كفيلة بالتأكيد على فشل هذا الخيار، أعني إحداث مزيد من التدمير لزحزحة بنود التفاوض، أو هز حزمة المطالب الفلسطينية في اتجاه يقلل من مخاطرها المستقبلية على إسرائيل، وبالتالي فإن طرحه لا يبدو عملية سياسية أقل من غبية.
ولو اعتبرنا أن النجاح في استهداف بعض قادة المقاومة الميدانيين أو حتى السياسيين، قد يمثل هذا التغير النوعي الذي افترضنا أن إسرائيل تسعى إليه، فإن الحسابات في هذه الحالة تكون خاطئة كذلك، لأن المقاومة الفلسطينية التي وُلِدت في حِجْر أحمد ياسين ليست مقاومة قيادات، ولا فصيلا صغيرا يقوم بعمليات خاطفة، ويتأثر حتى الموت باغتيال قائد أو قيادات منه، بل هو جيش حقيقي يضم في صُلبه ما لا يقل عن عشرين ألف مقاتل، غير عناصر الاحتياط والشرطة، ولديه القدرة على الإحلال السريع والتعويض الفوري للفاقد في صف القادة والجنود على السواء.
وقد كان الاحتضان الجماهيري لحركات المقاومة في القطاع، باعتبارها الأظفار التي تخدش إسرائيل، وتؤلم جيش الدفاع بل مجمل الكيان المحتل، وبالتالي تحفظ ولو جانبا من كرامة الشعب المستباح، كان هذا الاحتضان هو الرافد الذي لا يوفر البدائل عن الفاقد البشري للمقاومة في المواجهات مع إسرائيل فحسب، بل يضع قيادة المقاومة في مأزق الاختيار وسط حذر شديد من تعرضها للاختراق من قبل عملاء إسرائيل.
ولا ننسى أن الحالة الفلسطينية قبل أن تنطلق في جدلها مع الآخر -تفاوضيا أو عسكريا- تجادل نفسها داخليا، حتى على مستوى المقاومة نفسها، فلا تسمح الظروف والأحوال بأن يمر من شباكها الضيقة لوقت طويل إلا الجديرون بالبقاء في ساحة التفاوض أو الحرب.
عجز القوي
قد نتصور كذلك أن إسرائيل اندفعت إلى الحرب من جديد، وهو قرار مُرّ لكل الأطراف بلا شك، في ظل شعور باليأس والعجز عن الحسم، وهي القوية تسليحيا، أمام كيان لا يملك شيئا مما لديها من القوة العسكرية والمادية المتنوعة، ولكنه يذود عن قضية يعتقد جزما أنها عادلة تماما، ويحمل روحا عملاقة تنفخ في قواه المحدودة.
غير أن هذا -مع حضوره في خلفية الاحتمالات كلها كما يبدو من عيني نتنياهو القلقتين الزائغتين حين يبرز لنا على الشاشات- غير متصور في إدارة دولة، مهما كان رأينا فيها، تقوم على مؤسسات وهيئات محترفة لجمع البيانات والتخطيط واتخاذ القرار بشكل متخصص، دون أن ينفي ذلك أنها قد تفشل وقد تنجح نظرا لأن الفعل البشري هو هكذا في عمومه.
ولو كان هذا خيار تل أبيب لاتسعت في تدمير جنوني للقطاع، وهو ما لم نره إلى الآن، بل إن وتيرة القصف جاءت انتقائية وأقل بكثير من عمليات المرحلة الأولى.
وهذا الخيار كذلك لن يشارك إلا في مزيد من الجو الدولي المعارض للعمليات الإسرائيلية، مما قد لا تكترث له إسرائيل كثيرا، لكنه ييسر عمليات اختراق الحصار الخانق الذي تفرضه على قطاع غزة، وهو ما لا تريده إسرائيل أبدا إلا وفق حساباتها هي.
لا هدنة ولا حرب
هناك احتمال آخر في جعبة الأحداث نفسر به عودة إسرائيل إلى الحرب من جديد، بعد أن لانت في بعض المراحل لخيار التفاوض، أو هكذا بدا الحال، فلا شك أن سهر نتنياهو الذي بدا على عينيه المنتفختين يحكي جولات وجولات من التشاور وتبادل الرأي داخل البيت الإسرائيلي، كما يعكس صعوبة الموقف الذي تقفه القيادة الإسرائيلية التي لا شك أنها تضع مستقبلها السياسي أمام عينيها، ولا تستبعد أن يعصف به “العصف المأكول”.
حاول نتنياهو قبل ذلك أن يوقف القتال من جانب واحد بهدف تجميد الموقف عند حد معين، لكن المقاومة أعلنت براءتها من كل حل لا يستجيب لمطالب الشعب الفلسطيني، وأنها غير ملزمة بأي وقف للقتال لا يتم الاتفاق عليه معها، ومن هنا أُجبرت إسرائيل على الجلوس إلى طاولة التفاوض، لكنها كانت أشد مرارة على الإسرائيليين من الحرب، لأنها تعني باختصار فتح المجال أمام المقاومة نحو مزيد من التطور النوعي والكمي والعسكري والصناعي والتكاتف مع الجماهير، خاصة في ظل ما يجري الحديث عنه من ثروة هائلة من الغاز الطبيعي تقع قبالة شواطئ غزة.
ومن خلال هذه الصورة، يبدو أن خيارا من الخيارات المُرة هو الذي رجح العودة الإسرائيلية إلى ساحة الحرب، وهو اتباع سياسة اللاهدنة واللاحرب، فيقوم الطيران الإسرائيلي باستهدافات نوعية مختارة تستنزف المقاومة وسلاحها المحدود، وتغيِّب قادتها الميدانيين عن المشهد كله، دون التفكير في عملية برية أو تحريك المجنزرات في اتجاه القطاع المتأجج والمسكون بعفاريت المقاومة.
ووصف هذا الخيار بأنه مُر لإسرائيل ينبع من أن سكان الجنوب والمدن التي تستهدفها الصواريخ الفلسطينية، لن يستطيعوا العودة إلى حياتهم الطبيعية ما دامت المقاومة تعمل وتحرك صواريخها، كما أن مزيدا من القتل لأهالي غزة سيعني مزيدا من الضغط الدولي على تل أبيب.
غير أن لإسرائيل وسائلها في امتصاص الغضب الدولي من قتل المدنيين، فلها أصدقاؤها الكثيرون في نادي الكبار ممن يمكنهم أن يعطلوا أي قرار دولي ضدها، بل يمدونها بالسلاح الذي يتوقعون أن يخلصهم من الأنفاق وما شابهها، مثل: صواريخ جي بي يو/ 2 الأميركية، ولها أصدقاؤها كذلك من العرب على الحدود وغير الحدود ممن لديهم الاستعداد لتقديم الدعم المادي والمعلوماتي لتل أبيب.
كذلك تلجأ إسرائيل في مثل هذه الظروف الضاغطة إلى إظهار وجه إنساني زائف عن طريق السماح بمرور بعض المساعدات إلى غزة عن طريق المعابر التي تتحكم فيها، فإذا أبرز الإعلام الصهيوني الدولي هذا مقارَنا بتعنت الانقلابيين في مصر وإغلاقهم معبر رفح في وجه أي عمل إغاثي وإنساني للفلسطينيين، بدا الوجه الإنساني لإسرائيل واضحا.
وأما محدودية سلاح المقاومة وصواريخها، فهو رهان إسرائيلي على غير معلوم، واستهانة بالمقاومة التي أكدت بالفعل أنها لا تراهن على وسيلة واحدة، وأنها تستعمل في قتالها البحر والبر والأنفاق، وتطور أدواتها في استهداف الطائرات، ولا تكتفي بقتال العدو في أرضها التي تتحكم فيها، بل حتى في أرضها الأخرى المحتلة.
إنه ليس أقل من قَدَر جديد يُرسَم، وواقع مختلف عما جرى طوال قرن مضى يتكوّن، والمقاومة الفلسطينية ترسم -بتوفيق الله تعالى- جزءا كبيرا من المشهد، ولا تترك الغزاة البريطانيين ولا المحتلين الإسرائيليين يرسمونه وحدهم!
المصدر: الجزيرة