لم يحالفه الصواب من ظنَّ أن الحراكَ الثوري في مصر هو ردُّ فعل على الانقلاب فقط، وأخطأ بحسن نية من يعتقد أن عودة “مرسي” والشرعية التي ينادي بها مناهضو الانقلاب ستحلُّ المعضلة، ربما قد تحلها جزئياً أو مرحلياً، فغاية أهل الشرعية عودة الآليات التي اختاره
لم يحالفه الصواب من ظنَّ أن الحراكَ الثوري في مصر هو ردُّ فعل على الانقلاب فقط، وأخطأ بحسن نية من يعتقد أن عودة “مرسي” والشرعية التي ينادي بها مناهضو الانقلاب ستحلُّ المعضلة، ربما قد تحلها جزئياً أو مرحلياً، فغاية أهل الشرعية عودة الآليات التي اختارها الشعب، والقصاص ومحاسبة من ظلم، وهذا في حد ذاته قد يكفينا إن لم يكن يزيد، لكن..
أنا على يقين أننا إرادة الله الخفية وتدبيره الذي فوق قدراتنا، وما نحن إلا: “هزي إليك بجذع النخلة”، وثقتي ويقيني في نصر الله وتأييده بلا حدود، بل ربما آخذك إلى صعيد آخر ألا وهو أن ما يحدث الآن في مصر وسورية هو إرهصات ثورة إسلامية آتية شئنا أم أبينا، أو هو وضعُ بذرة التصحيحِ لجيل النصر المنشود.
وما يحدث حلقةٌ من حلقاتِ صراع الحقِّ والباطل الذي ستكون نتائجه مدهشة، نعم قد يتفوق الباطل أو يظن نفسه لديه القوة والردع والآلة، لكنه من حيث لا يدري ينبُت جيل تربي على نزع الخوف ومواجهة الباطل مهما كانت قوته، وفي معتقلاته ستنشأ قيادات تقود دفة البلاد وتغيير المسار من جديد، وفي المسيرات المناهضة ستتحرر بناتنا من الأفكار العبثية التي طالما شغلت أفكار مثيلتهن، ليصبحن رباتِ قضية، فتحمل كلُّ واحدةٍ على عاتقها تربية الجيل المنشود الذي به ستتحرر الأمة عما قريب.
ما رأيته في رابعة والنهضة أشبه بمعسكرات التربية النفسية والروحية والحركية، وتظلُّ عدوى السليم إلى من به سقم تصلح شأن كثيرين ممن في المظاهرات والمسيرات، أو ممن خارج الصف، والشبابُ قد تعلم من دفن شهدائه كيف يروي بدمائه شُجيراتِ الحرية، وكيف تنمو دموع الحزن فتخرج منها إرادة لا تلين، إن الشباب يحمل قلوباً كالجمرة الملتهبة، هتافاته رعد يقعقع، سلاحه السلمية ضد الظلم وضد الانقلاب، ربما لا يسعف البعض منا معاينة قطف الثمار، لكني أراها تدنو وهذا الجيل من الشباب يرويها بزفيره وشهيقه، ويحتويها بفكره ووجدانه، وسيرثها ويورثها قبل رحيله..
لذا أقول لشباب الثورة: التّعصُّبُ يُبعِدُ عن لُبابِ الدِّينِ، وسعة الأفق تجعل القلبَ يسع الجميع، فثقفْ نفسك بالعلم والدين، ولا تتعلق بالقشور أو سفاسف الأمور، فمن تعلَّقَ بالقشورِ خسِرَ الحقيقةَ، سامح واغفر لمن أساء إليك، ولا تدع رغبة الانتقام تنمو داخلك، فلا مرضَ كالحقدِ والكراهيَّةِ والحسدِ، ولا نارَ كالانفعال والتَّسرع والغضبِ، ولا سعادةَ أسمى من السكينةِ وهدوء النَّفسِ وراحة البال، ومن تحرَّرَ من الكراهيةِ والحقدِ والحسدِ ولجَ دُروبَ الإيمانِ باطمئنانٍ، فسُبحانَ من دفعَ الكونَ في مساراتٍ مُنتظمةٍ لتكوينِ الحياةِ.
سُبحانَ الخالقِ المُبدعِ من زرعَ الرُّوحَ في الجسدِ، فقدرة الله تتجلى في سلميتكم التي تتحدى البطش والرَّصاص، وقدرة الله تتجلى في ثبات قادتكم ويقينهم في نصر الله، وقدرة الله تتجلى في إقبالكم على الموت نفس إقبالكم على الحياة، كما تتجلَّى قدرته في نسائمِ الصَّيفِ وفي عواصفِ الشِّتاء، ولا مخرج لنا من أزمتنا بعد الله ومنظومة الأخلاق القويمة، إلا بالأسباب التى سخرها لنا سبحانه وتعالى.
وفي تاريخنا المشرق صفحات أكثر ضبابية من واقعنا المظلم، واستطاع أجدادنا أن يتفوقوا على الصعاب ويتحدوا المستحيل، فما الحروب الصليبية والتتار عنا ببعيد!! ومصر الأن ومعها سورية وبقية المنطقة، في أشد الاحتياج إلى الإدارة العلمية التى تبدأ بإدارة الفكر، ثُم تأتي إدارة الحركة على نهج الأولى، واعلموا أيها الشباب: تتراءى عظمةُ اللهِ عندَ كُلِّ ولادةٍ وعندَ كُلِّ موتٍ، وعند كلِّ اعتقال، وعند كل غرس فسيلة أو قطف ثمرة، وعند كل جيل يتمنى التغيير، فأنتم شرارة البدء، وقوة الدفع، والمستقبل لكم وإنا راحلون. اجعلوا الله وليَّكم ومعينكم، اللهُ هوَ قوّةُ الحقِّ ودافعُ الخيرِ ونورُ الجمالِ، اللهُ هوَ موقد الحياةِ في أجسادِ المخلوقاتِ، والفِكرُ الإنسانيُّ السَّليمُ لا يُنشِدُ إلَّا ترانيمَ الحقِّ والخيرِ والجمالِ، والمسلمون أحق بهذا من غيرهم، عندكم أيها الشباب ومعكم وبكم تلتقي قوافلُ الحقِّ على اختلاف مشاربها في ديارِ الحقيقةِ، لتشربَ من نهر الإنسانيةِ ماءً طهوراً، بحبل الله اعتصموا، وبالدين تمسكوا وعلى سلميتكم حافظوا، وبيقين المؤمن ثقوا في نصر الله ومعيته، فالدِّينُ الحقُّ هوَ كشفُ الحياةِ المُقدَّسةِ وتحقيقها وتفعليها واقعاً في مساراتِ الحياةِ، الدِّينُ القويمُ يبني صروحَ سلامٍ وحرية في النِّفوسِ البشريّةِ المُهدَّدةِ بالآلامِ، ويعالجُ كل أوجاع النفس والروح والبدن.
الدِّينُ العظيمُ يُحقِّقُ قداسةَ الحياةِ في الأجسادِ الخاضعةِ للأمراضِ والفقر والموتِ، ووحيُ اللهِ يسكنُ في روحِ الإنسانِ قبلَ ولادتهِ، وهذا الوحيُ يُخاطبُ الرُّوحَ فيدفعُ الإنسانَ إلى تسلق قِممِ الفضيلةِ متيقناً بثواب الله سواء وصل أو مات على الطريق، وإياكم والأبائية وموروثاتنا العفنة وألف ليلة وليلة التي لا تصلح، نقحوا ديننا وتاريخنا من الأساطير والقيم البالية، ونعيق النخبة القميئة التي أكلت على موائد الغرب ثم جاءت لتبول مِن فِيها لدينا، فالطقوسُ الموروثةُ التي لا تنسجم مع روح الدين وقيمه تُبعِدنا عن اللهِ، فدعونا نَحرقُ البخورَ على جملة الوساوسِ التي لا تجدي، والسفسطة التي تنتابنا أوهاماً في تراثنا وفكر الأولين.
وإياكم والفرقة والتقرُّبَ من اللهِ زُلفى عِبرَ الدّماءِ والشحناء والتعصب، فمرضاةُ اللهِ غاية سامية ونبيلة لا سبيل لنيلها إلا بالعملِ الصَّالحِ، وليحاول كل منا أن يقتلَ جهلاً ويسدَّ جوعاً ويمسحَ دمعةً ويربت على ظهر يتيم أو يعين أرملة، فالعملُ الصَّالحُ أطهرُ صلاةٍ، وبالنور تيمموا وبالعلم انهضوا وقدِّسوه ووقروا من يؤديه حقه، فمُعلِّمُ الأجيالِ ناسكٌ يؤدِّي رسالةَ الحقِّ، المُعلِّمُ رسولُ العلمِ والمعرفةِ والوعي والهدى.
وليكن في معلوم الجميع أنه: يؤدِّي أطهرَ صلاةٍ من يحرثُ الأرضَ، ويزرعُ الحبَّ، ويطرحُ السَّنابلَ على البيدرِ، ويمسحُ العرقَ عندَ التَّعبِ، من يبني للحياةِ الشريفة راهبٌ يعبدُ اللهُ فيما يبني، ومن يزرع الفسيلة وقد قامت قيامته فقد استيقن الثواب، وآمن بمن سيأتي بعده، فليس المهم أن تجني، بل الأهم أن تزرع أنت، فمن نهلَ الفضيلةَ والأخلاقَ والاعتقاد من كُتبِ السَّماءِ..
ويكفينا من الانقلاب أنه هدم كلَّ الأصنامِ التي بنيناها زوراً وبهتاناً من القضاءِ الشامخ، وأظهر حقيقةَ “خير أجناد الأرض”، وفضح على الملأ “الخوالف”، وبانت على حقيقتها النخبة الإعلامية التي تشبه الحية الرقطاء التي تبثُّ سمها في أذهان العوام وأشباه الرجال، وأظهر لنا جلياً شعب الحجار ومدى خسته ونذالته وانعدامه للحد الأدنى من الإنسانية. وأخيراً نشكر هذا الانقلاب؛ فمنه عرفنا العدو الداخلي الذي يعيش بيننا قبل الخارجي، بل يكفينا من الانقلاب إن لم يكن يزيد أنه كشف لنا عن خنساوات عصرنا الحديث واللاتي ضربن أروع الأمثلة في الصمود والثبات والتجرد.
وأقول لكم معشر الشباب: وستبقى ثورتنا مستمرة، وسيظل شعارنا: “سلميتنا أقوى من رصاصهم”، والله ناصرنا وتبّاً للانقلاب.