في العهد الشيوعي شنَّ «ستالين» حملة ضارية ضد الدين وبات الحج مستحيلاً عليهم
في عهد القياصرة صدرت أوامر عليا بمنح أذونات للراغبين في الحج وفي أواخر القرن التاسع عشر بدأت القيصرية مراقبة الحجيج
في العهد الشيوعي شنَّ «ستالين» حملة ضارية ضد الدين وبات الحج مستحيلاً عليهم
في عهد الدولة العثمانية كانوا يتجهون إلى إسطنبول ثم يسافرون مع حملات الحج العثمانية براً عبر الشام إلى الحجاز.. وكانوا يحرصون على زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه
عندما دخلت الشعوب التركية – ومنهم شعب تتار القرم – الإسلام، أقبلت على الدين الحنيف بحب وإخلاص وحماسة؛ وهذا انعكس إيجاباً على نشاطهم الدعوي في نشر الإسلام والدعوة والجهاد، وعلى نشاطهم العلمي بالكتابة والتأليف.
وكان من إقبالهم على الإسلام اهتمامهم بالفرائض والسنن والآداب، ومن هذه الأركان الركن الخامس في الإسلام فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، وقد حرص تتار القرم – الذين يقطنون شبه جزيرة القرم على السواحل الشمالية للبحر الأسود – رغم كل الصعوبات والمعوقات على أداء هذه الفريضة والالتزام بها على مر السنين.
ومع دخول الإسلام إلى الأراضي الأوكرانية في القرن العاشر الميلادي، بدأ المسلمون بالتواصل مع العالم العربي والإسلامي، وزيارة الأماكن المقدسة في القدس ومكة والمدينة.
الحج في ظل حكم أسرة «كيراي» للقرم من عام 1441 – 1774م:
تذكر المصادر التاريخية أن عدداً من خانات (أمراء) القرم قاموا بأداء فريضة الحج، منهم الحاج «كيراي الأول» (1397 – 1466م) أول خان للقرم أدى فريضة الحج إلى مكة مع أحد أقاربه الذي كان يعيش في ليتوانيا، وذلك قبل اعتلائه عرش الدولة عام 1441م.
وفي عام 1524م قام حاكم قازان ثم القرم الخان «صاحب كيراي» (1501 – 1550م) بأداء الحج عن طريق إسطنبول، وأناب مكانه في الحكم أحد أقاربه «صفا كيراي».
وقام خان القرم الحاج «سليم كيراي الأول» (1631 – 1704م) بالحج إلى مكة عام 1691م.
وكان مسلمو القرم من التتار يتوجهون بحراً إلى إسطنبول، ثم يسافرون مع حملات الحجيج العثمانية المتجهة براً عبر الشام إلى الحجاز، وكانوا يحرصون كذلك على زيارة بيت المقدس والصلاة في المسجد الأقصى في طريقهم.
الحج في ظل الحكم الروسي القيصري من عام 1774 – 1917م:
واستمر مسلمو القرم في أداء فريضة الحج رغم احتلال القيصرية الروسية لأراضيهم، خاصة وأن اتفاقية «كوجك قينارجه» التي وقعت مع الدولة العثمانية عام 1774م، والتي تخلت فيها الدولة العثمانية عن القرم، كانت تنص على حرية ممارسة الشعائر الإسلامية، وقيام شيخ الإسلام في إسطنبول بتنظيم الشؤون الدينية للقرم.
في عام 1803م، صدرت أوامر عليا بمنح أذونات خاصة لـ«المحمديين» (المسلمون كما كانوا يُسمَّون في روسيا القيصرية) الراغبين في الحج، وبدأت عام 1855م بإصدار جوازات سفر رسمية، يذكر فيها سبب السفر للخارج.
وزاد اهتمام روسيا القيصرية بموضوع الحج مع أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقامت بعدة أعمال وإجراءات في سبيل مراقبة وتنظيم أمور الحجيج المسلمين من روسيا، فقامت بافتتاح أول قنصلية لها في مدينة جدة عام 1890م، وكان أول قنصل هو التتري «شيخ مراد ميرسافيتش».
ثم ابتعثوا ضابطاً مسلماً اسمه «عبدالعزيز دولتشين» إلى الحج عام 1898م؛ لكي يأتي بتقارير مفصلة للسلطات الروسية عن أوضاع الحجيج من مسلمي روسيا والدول الأخرى، ويطلع على إمكانات تلك البلاد الاقتصادية والعسكرية، ويدرس وضعها الجغرافي والسياسي وحتى الصحي، ويرفع توصيات بذلك إلى الحكومة، وتم اختياره لعدة اعتبارات، منها أنه عسكري يعرف عدة لغات كالتركية والفارسية والإنجليزية وغيرها، وخدم في عدة مناطق روسية يتواجد فيها المسلمون؛ مما أتاح له الاطلاع على عاداتها وتقاليدها.
وجمع «دولتشين» مذكراته في كتاب قيم تحت عنوان «الرحلة السرية للضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين إلى مكة المكرمة 1898 – 1899م».
ويعود رصد السلطات القيصرية لظاهرة الحج لعدة أسباب، منها:
1- تعاظم دور العامل الإسلامي في سياسة روسيا الداخلية والخارجية، فقد بلغ عدد المسلمين في الإمبراطورية الروسية مع نهاية القرن التاسع عشر 16 مليون نسمة.
2- كثرة عدد الراغبين لأداء هذه الفريضة عاماً بعد عام، فمن تقرير القنصل الروسي في جدة نجد أن متوسط عدد الحجاج من رعايا روسيا 8 – 10 آلاف شخص في السنة، علماً بأنه في عام 1901م أعطى القنصل الرقم 6 آلاف حاج، وفي عام 1902م الرقم 16 ألف حاج، وفي عام 1903م الرقم 4741 حاجاً.
3- أخذت قضية الحج تكتسب المزيد من الأهمية، حيث لم يعتبر كثير من المسؤولين الروس الحج ظاهرة ذات طابع ديني فقط، بل ظاهرة سياسية أيضاً، إذ أصبحت كما ذكر المؤرخون سبيلاً لتسريب أفكار ومشروع الجامعة الإسلامية إلى روسيا (وفيها دعا السلطان العثماني «عبدالحميد الثاني» إلى وحدة المسلمين في العالم).
4- كان الحج قناة بالغة الشأن لإيصال مخطوطات وكتب الشخصيات الإسلامية الكبيرة إلى الأراضي الداخلة في قوام الأراضي الروسية بما فيها القرم؛ الأمر الذي كان ييسر تبادل الأفكار في العالم الإسلامي، ويثير مخاوف السلطات الحاكمة الروسية.
5- اعتبرت رحلة الحج ظاهرة مهمة بالنسبة للسلطات الروسية من حيث عواقبها على الصعيد الصحي الوبائي؛ إذ إن أداء فريضة الحج كان محفوفاً في ذلك الوقت بخطر نقل أوبئة متعددة؛ كالطاعون والتيفوئيد والكوليرا وغيرها إلى أراضي الإمبراطورية.
في أواخر القرن التاسع عشر، تكونت ثلاثة طرق رئيسة لحج المسلمين من رعايا الدولة الروسية:
الطريق الأول: من منطقة القفقاس وما وراءها عبر إيران والعراق إلى المدينة ومكة، ويعبره الداغستان والشيشان والشركس وغيرهم.
الطريق الثاني: عبر سمرقند وبخارى إلى أفغانستان فبومباي في الهند ومنها بحراً إلى جدة وينبع، ويسلكه البخاريون والتركستان والقرغيز وغيرهم.
الطريق الثالث: عبر مدن أوديسا وسيفاستوبل وأحياناً موانئ فيادوسيا وسوداك في القرم عبر البحر الأسود إلى إسطنبول ثم إلى السويس وجدة وينبع، كذلك شرعوا يستغلون السكك الحديدية الجديدة عبر فيينا وإسطنبول.
والطريق الأخير هو الأسهل والأقصر، ويسلكه تتار قازان والقرم والمسلمون القاطنون في أوكرانيا وبيلاروسيا وليتوانيا وبولندا وأحياناً بعض مسلمي آسيا الوسطى.
وتخضع هذه الطرق للمراقبة الشديدة بالنسبة لحمل جوازات السفر الرسمية، وخلو المسافرين من الأمراض المعدية.
وتشير المصادر إلى أن الحجاج من رعايا روسيا كانوا يفضلون استعمال جوازات سفر تركية وفارسية وبخارية قديمة، وحتى جوازات السفر الصينية؛ ومرد ذلك إلى التعقيدات البيروقراطية التي كانت ترافق الحصول على جوازات السفر في روسيا، وإلى المنع الدوري من قبل السلطات الروسية للسفر إلى الحج؛ نظراً لخطر الأوبئة في الشرق كما كانت تدعي، فمثلاً منعت السلطات الروسية الحج من عام 1892 – 1895م، ومنذ النصف الثاني من عام 1896 – 1900م.
ونلاحظ في الوثائق الروسية أن مطوفي وأدلة ووكلاء الحج كان يحددهم القنصل الروسي في جدة، وأن كل واحد منهم مسؤول عن قومية معينة، كوكيل حجاج داغستان، ووكيل الشركس، ووكيل القرغيز وتتر قازان.. وهكذا.
ويذكر أن عدداً من الحجيج القرميين وخلال مئات السنين استقروا في الأماكن المقدسة بعد أدائهم الشعائر، وذلك في القدس الشريف بفلسطين (يوجد حالياً حي باسم القرمي)، وفي غزة، وفي الحجاز في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكذلك في مصر، ولا تزال عدة عائلات عربية هناك تحمل لقب «القرم» و«القرمي».
حج مسلمي تتار القرم في ظل الحكم الشيوعي 1917 – 1991م:
ومع إرهاصات ثورة أكتوبر عام 1917م في روسيا، تعاون المسلمون الخاضعون للسيطرة الروسية ومنهم تتار القرم وخاصة المثقفين منهم، تعاونوا مع الأحزاب الروسية المعارضة لحكم القياصرة، ورحبوا فيما بعد بانتصارها، ولكن بالمقابل استثار نشاطهم حذر السلطات الرسمية وارتيابها، وانتقاد وغضب الشوفينيين المفعمين بروح الدولة الكبرى.
وقد جعلت سياسة «ستالين» المعادية للدين من المستحيل عملياً على أغلبية السكان المسلمين في روسيا – ومنهم القرميون – لا الحج وحسب، بل أيضاً أداء أغلب الشعائر الدينية، وقامت حملة دعائية حادة ضد الدين.
وقد قام الملك فيصل بن عبدالعزيز يرحمه الله تعالى (وكان وقتها وزيراً للخارجية السعودية) بزيارة إلى الاتحاد السوفييتي عام 1932م، وطرح خلال الزيارة موضوع سفر الحجاج المسلمين في روسيا، واستعداد المملكة لتأمين كافة احتياجاتهم، واستعداد المملكة لاستقبال عدد من 10 – 15 ألف حاج سنوياً، ولكن السلطات الشيوعية أهملت هذا الأمر ولم تأخذ به.
ورغم ذلك، فإن تتار القرم الذين هُجّروا قسراً إلى تركيا خلال ثلاثة قرون، والذين يقدر عددهم بين 4 – 5 ملايين، استمروا في السفر إلى الحجاز لأداء مناسك الحج.
في أوائل عام 1945م استؤنف حج المسلمين من الاتحاد السوفييتي، وكان يحج كل عام نحو 20 – 25 شخصاً فقط على مستوى كل القوميات المسلمة التي تعيش في البلاد، وبقي الأمر كذلك حتى عام 1989م، وخلال السنوات الـ45 المنصرمة في ظل الحكم الشيوعي، قام بالحج ما مجموعه 850 – 900 شخص فقط؛ الأمر الذي لا يتطابق مطلقاً مع مجمل عدد المسلمين على أراضي الاتحاد السوفييتي.
وفي عام 1990م وصل إلى مطار جدة 1525 حاجاً سوفييتياً على متن طائرات خاصة من شركة «إيروفلوت» السوفييتية، ولم يكن بينهم أي قرمي تتري.
الحج بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واستقلال أوكرانيا:
واليوم، وبعد استقلال أوكرانيا وعودة تتار القرم من أماكن تهجيرهم القسرية إلى موطنهم الأصلي في شبه جزيرة القرم، ورغم فقرهم وتكاليف السفر العالية، يقوم المئات من مسلمي تتار القرم وأوكرانيا بأداء الحج والعمرة كل عام، وبلغ عدد من قام بفريضة الحج منذ العام 1992م إلى اليوم حوالي 1500 شخص فقط، رغم أن عدد مسلمي تتار القرم يقارب 500 ألف نسمة.
هذا ولا تزال حتى الآن عدة عائلات قرمية تترية تحمل أسماء أجدادها الذين أدوا فريضة الحج، وهم يفتخرون بذلك، مثل: «أجي عثمانوف»، «أجي أسانوف»، «أجي بيه»، و«أجي أميتوف».. وغيرها.>
المراجع
1- الرحلة السرية للعقيد الروسي عبدالعزيز دولتشين إلى الحجاز عام 1898 – 1899م، الدار العربية للموسوعات.
2- مقالة بعنوان «تتار القرم المسلمين وفريضة الحج»، د. أمين القاسم، موقع «أوكرانيا برس».
3- الإسلام في القرم، باللغة الروسية، لمجموعة من المؤرخين، سيمفروبل عام 2009م.