تعيش تونس في مخاضٍ عسيرٍ وحقيقي على وقع ثورة مضادّة ناعمة تتسلّل عبر صناديق الاقتراع لوأد ثورتها التي أطاحت بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
تعيش تونس في مخاضٍ عسيرٍ وحقيقي على وقع ثورة مضادّة ناعمة تتسلّل عبر صناديق الاقتراع لوأد ثورتها التي أطاحت بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
لقد أفلح فلول النظام الأسبق في الحفاظ على وجودهم بعدما تمكّنوا من دفن قوانين العزل التي كادت أن تخرجهم من المشهد السياسي بصفة نهائية وقانونية، لولا تلك الاغتيالات المشبوهة التي طالت شكري بلعيد ثم محمد البراهمي وغيرهما، وكانت ضربة قوية لم تنكشف أسرارها بعد، أجبرت حركة “النهضة” حينها على العودة للخلف من أجل الحفاظ على وجودها، وحتى لا يكون مصيرها مثل مصير الإخوان المسلمين في مصر الذين تشتّت شملهم بين القبور والسجون والمنافي والمظاهرات المناوئة للانقلاب العسكري الذي قام به وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي على رئيسه المنتخب محمد مرسي.
صديقنا منصف المرزوقي
يجب أن أؤكد على أربعة أمور هامة في سياق حديثي عن تونس في هذه المرحلة الصعبة من عمرها:
أولاً:
سبق وأن انتقدت الرئيس منصف المرزوقي في وسائل إعلام تونسية ودولية، وقد عايشته لسنوات في فرنسا لما كان معارضاً نحمل معاً الهمّ الحقوقي لدرجة كبيرة من الإيمان الإنساني الذي يقلّ نظيره، ولكن بمجرد أن وصل للحكم لم يقدم للشعارات التي رفعها ما كنت أتوقعه أنا وغيري ممن يتابعون الشأن الحقوقي في العالم العربي عموماً والمنطقة المغاربية بصفة أخص. وطبعاً ما زلت عند رأيي في تلك الانتقادات رغم الظروف الصعبة التي حكم فيها المرزوقي، وأتمنى أن الفترة القادمة في حال فوزه تكون فرصة لتقديم الأفضل للشعب التونسي.
ثانياً:
أثناء حكم الرئيس المرزوقي كنت الكاتب والحقوقي الوحيد على ما أعلم ممّن عايشوه وعرفوه عن قرب الذي لم يزر تونس، وكانت آخر مرة دخلت البلد في عهد بن علي لما غادرت الجزائر بسبب المضايقات والسجون التي تعرضت لها. ولقد عرض عليّ ناشطون سوريون في 2012م يقيمون في تونس أن أزورهم كي ألقي محاضرة حول تجربتي في بعثة مراقبي الجامعة العربية بسوريا، غير أن وزارة الداخلية في عهد الوزير علي العريض نصحتهم بعدم إقامة أيّ نشاط لي بسبب الوضع الأمني في البلاد، حيث يمكن أن يتحوّل ذلك اللقاء إلى فرصة تستغلّها أطراف معادية للثورة التونسية، وربما يصل الحال لاغتيالي كما نقلوه لي.
ثالثاً:
لا يزال اسمي مدرجاً في القائمة السوداء لنظام بن علي بسبب انتقاداتي له في برامج عبر فضائيات عربية ودولية وقد أتعرّض للاعتقال في المطار. وهذا ما نقلته لي جهات عليا تونسية، ولقد راسلت الرئيس منصف المرزوقي بخصوص هذا المنع غير أنه لم يرد علي، فاعتقدت أن الرجل لم يهتم بالموضوع أو أشغاله حالت دون أن يجد الوقت للاهتمام بموضوعي، فهو رئيس دولة تعيش على صفيح ساخن وأشغاله كثيرة جداً، فالتمست له ألف عذر من دون أن أسمع منه.
فضّلت حينها الصمت حتى لا أزيد الطين بلّة، وتوجد جهات إعلامية وحقوقية في تونس اتصلت بي وأبدت رغبتها في مساعدتي لدخول البلاد ولو بشنّ حملة ضد حركة “النهضة” والرئيس التونسي الصديق المرزوقي، غير أنني رفضت ذلك حتى لا أثقل كاهل تونس بعبئي أكثر مما هي عليه.
رابعاً:
في الآونة الأخيرة تلقيت عدة اتصالات من قنوات وجهات صحفية في تونس، وكانت رغبتها في إجراء حوارات معي واستضافتي في تونس إن قبلت الدعوة، وهمّها هو شهادات حول الرئيس المترشح المرزوقي من أصدقائه السابقين والناشطين معه في مجال حقوق الإنسان بباريس.
لما تبيّنت لي نوايا هذه الجهات الإعلامية، رفضت أن أكون مجرّد جسر يمرّ عليه من لديهم حسابات لتصفيتها مع الرئيس منصف المرزوقي، الذي تعرّض لحملات إعلامية غير مسبوقة في العالم العربي، ولا يشبهه إلا حال الرئيس المصري محمد مرسي، وسبب هذا التشابه هو القاسم الثوري المشترك بين البلدين.
بلا أدنى شكّ أن الرئيس منصف المرزوقي له أخطاؤه في تسيير البلاد، وفي المقابل نجد السبسي له جرائمه مع نظام كان يتولّى منصب رئيس برلمانه وعضو اللجنة المركزية في حزب “التجمع” الحاكم الذي أفسد في البلاد والعباد. كما أن المرزوقي فشل في جوانب بينها التي أقرّ بها ولكنه نجح في أخرى وهذا الذي اعترف به بعض خصومه، وما يحفظ له أن الرجل جنّب تونس ما كان يحاك لها كي تغرق في الدماء مثلها مثل ما تبقى من دول “الربيع العربي”.
قد نقول إن المرزوقي لم يجسّد “كاريزما” الرئيس العربي الذي نحت صنمه في المخيال الشعبي العربي، من حيث الشكل والقوة والجبروت والكبر. وقد نقول إن بعض خيارات المرزوقي السياسية ليست في مستوى تطلّعات الشعب التونسي. وقد نقول الكثير في هذا الرجل الذي تربّع على عرش السلطة التونسية بحقيبة حقوق الإنسان. ولكن ما لا يمكن أن يتجرّأ عليه أحد هو التشكيك في نزاهة الرجل ونظافة يده، حيث لا يزال المرزوقي مناضلاً يريد أن يقضي على بؤر الفساد المالي التي تنخر الاقتصاد التونسي منذ سنوات ولا يمكن أن يتحقّق ذلك بين عشيّة وضحاها في ظل الدولة العميقة المحصّنة بالمال الفاسد.
كما أنه من السخافة التشكيك في ديمقراطية منصف المرزوقي، فهو الذي جسّد في حملته الانتخابية ما لا يمكن تصوّره من قيم الديمقراطية الحقيقية، كما أنه لأول مرة في تاريخ الوطن العربي يترشّح الرئيس ويموّن حملته الانتخابية من مداخيل كتاب ألّفه، وفي الدور الأول من الرئاسيات يحتلّ المرتبة الثانية ويطعن في نتائج الانتخابات ثم ترفض طعونه في ظرف قياسي ثم يستأنف الحكم. وأيضاً يتعرّض لحملات إعلامية منظّمة شاركت فيها حتى مؤسسات رسمية تابعة للدولة التي هو رئيسها.
لقد عهدنا الرؤساء فيما تسمّى بـ”الجمهوريات” العربية إما يجرون استفتاءات على أنفسهم يحقّقون من صناديق الاقتراع التسعات الأربع 99.99%، أو أنهم يترشّحون مع أرانب سباق وحملاتهم الانتخابية على حساب الخزينة العمومية، وفي النهاية يفوزون بلا أدنى شك. ولأول مرة في العالم العربي نجد الرئيس الحاكم يخوض انتخابات لا أحد يمكنه أن يتكهّن بنتائجها، بل إنه في دول عربية تكاد الصحف تخرج بنتائج الانتخابات قبل إجرائها.
كان من الممكن أن المرزوقي بمجرّد أن تولّى الرئاسة في نوفمبر 2011م يقوم بتقوية نفسه عبر العسكر وأجهزة الأمن، ثم يبطش بثورة أوصلته لسدّة الحكم بدل أن تغتال الآن بفلول نظام مخلوع. لو أن المرزوقي فعلها وتعامل بوحشية مع معارضيه ولن يتحرّك العالم ضده بل سيباركون ذلك ما دام أغلب ضحاياه سيكونون من التيار الإسلامي، كما أن المنظومة الدولية ألفت التفرّج على الدماء وهي تنزف في سوريا ومصر واليمن وليبيا. ولكن الرجل لم يفعل ذلك وبقي وفيّاً لقيم الثورة والديمقراطية التي ناضل من أجلها، وهذا ما سيبقى يسجّل له حتى ممن لديهم تحفّظات على مسار حكمه لتونس الخضراء.
تونس في مفترق الطريق
كل من يتابعون تونس أجمعوا على أنها صارت أمام خيارين لا ثالث لهما أبداً:
الخيار الأول: الثورة المضادّة التي تمرّ ناعمة عبر صناديق الاقتراع بعدما فشلت بخيارات أخرى رغم دماء سالت وإرهاب مفتعل في أكثره، فإن انتخب الشعب التونسي الباجي قايد السبسي، فهذا يعني أن ثورة سيدي بوزيد وغيره أكلت نفسها، وأن الشعلة التي انطلقت من تونس لتحرير الشعوب من استبداد الطغاة انطفأت بعدما عادت من حيث انطلقت. السبسي يمثل نظام بن علي بامتياز، وعبره سيعود “التوانسة” إلى ما قبل العهد الذي دفنوه بثورتهم.
الخيار الثاني: استمرار ثورة 14 يناير في تحقيق مكاسبها من خلال الخيار الوحيد القائم الآن بين أيديهم وهو الرئيس منصف المرزوقي، وبذلك يبقى الشعب التونسي يعطي النموذج الحي في مقارعة الاستبداد بأساليب ديمقراطية في غاية التحضّر.
قد يقول البعض إن الثورة لم تحقّق ما تطلّع له الشعب التونسي، وهي حقيقة لا يجب القفز عليها ولولا ذلك إلى جانب تراكمات وأسباب أخرى، ما احتل السبسي المرتبة الأولى في التشريعيات والدور الأول من الرئاسيات. ولكن هذا الفشل الذي كان في جزء كبير منه مفتعلاً ممّن يتصدّرون المشهد الآن، لا يبرّر أبداً اللجوء للثورة المضادة والاستسلام لها وهي التي ستعيد الشعب التونسي إلى ما قبل المربع الأول، فمع استمرار الثورة يبقى الأمل قائماً في جني ثمارها كما حدث مع ثورات الشعوب عبر التاريخ، ولكن مع وأدها فلن يبقى أي بصيص أمل لشعب عانى الأمرين في عهد الاستبداد إلا ثورة ثانية ستفتح عليه أبواب الجحيم كما فتحت على غيره من شعوب ثورات ما سمي بـ “الربيع العربي”.
لست أطبّل لمنصف المرزوقي ولا أحرّض على قايد السبسي وهذا ما يتنافى مع مبادئي التي ناضلت من أجلها ودفعت ثمنها في السجون والمنفى، كما أنه شأن تونسي أعرف حدودي فيه حتماً، لكنني أجد نفسي كمتابع للشأن التونسي بين خيارين فقط، إما أن أناصر الثورة أو أصفّق للثورة المضادّة ولا توجد منطقة وسطى بينهما للأسف.
كما أدرك دائماً أن من تربّى في أحضان طاغية وكان ذراعه التي يبطش بها لا يمكن أن يتحوّل بين عشية وضحاها إلى ديمقراطي يرافع من أجل حرية شعب عانى الأمرّين من نظام سابق كان السبسي هو أحد أركانه والمرزوقي أحد ضحاياه. والثورات الناجحة عبر التاريخ قضت على الحرس القديم من الأنظمة السابقة مثلما جرى في روسيا وفرنسا وغيرهما، ومن لم تفعل ذلك تجد نفسها ضحية ثورة مضادّة تسرق أحلام الشعوب.
كم تمنيت أن أرى المنافسة في تونس الثائرة خلال الدور الثاني بين وجهين من وجوه ثورة 14 يناير فقط، حينها سأعذر الشعب الذي سيتمزّق بين رؤيتين مختلفتين في بيت الثورة الواحد، وقد أكون من الذين يرافعون ضد الصديق منصف المرزوقي إن كانت خيارات الطرف الآخر أفضل. لكن أن نرى المنافسة بين دعاة الحرية وأركان الاستبداد فهذا لعمري هو أسوأ ما قد يصدم فيه كل مناضل من أجل تحرير الشعوب وحقوق الإنسان.
بلا أدنى شكّ أن الشعب التونسي في غالبه يعي ما يناط لثورته من مؤامرات داخلية وخارجية، فيوجد من الحكام العرب ممّن لا يريدون لثورات الشعوب أيّ نجاح، حتى تبقى شعوبهم تحت أحذيتهم تلتزم الصمت خوفاً من مصير مشؤوم، ولكن يجب أن يفهم “التوانسة” حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، فكما كانوا شعلة في حراك الشعوب، فهم الأمل الأخير الآن الذي بقي لأنصار الحرية في العالم العربي، بعدما نجحت الثورة المضادّة في مصر ولا تزال تغرق ليبيا في مستنقعات الدماء، أما سوريا فهي تعيش الثورة المضادة منذ اليوم الأول من ثورتها، واليمن نراه تحت حوافر الحوثيين بدعم من نظام علي عبد الله صالح المخلوع.
ننتظر الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية بين ممثّل الثورة منصف المرزوقي وممثّل الثورة المضادّة باجي السبسي، والشعب التونسي هو السيّد في الإبقاء على ثورته والحفاظ على وجودها، أو الرجوع للخلف بما سيغتال الشهداء مرة ثانية وبذلك يصفع المواطنون أنفسهم قبل أن يصفعوا كل حرّ أشاد يوماً بتونس الخضراء وثورتها الخالدة.
(*) الخليج أون لاين