وقد يكون جواب أي كان بالشرق الأوسط رداً على ذلك هو أن الكل يعرف نفاق الولايات المتحدة فيما يتعلق باحترام الحقوق.. ومزيد النفاق لن يكلف شيئاً، ويمكن لهذا النوع من السخرية أن يبرر أي نتيجة، مهما بلغت.
الكاتب: نوح فيلدمان (*)
عندما يصدر حكم بإعدام 188 شخصاً في نفس جلسة المحاكمة، كما حدث في مصر الثلاثاء الماضي، علينا أن ندرك أن خوراً خطيراً قد أصاب منظومة العدل في مصر.
لا ينكر أحد وقوع احتجاجات في كرداسة في القاهرة يوم 14 أغسطس 2013م للتنديد بالانقلاب العسكري في نفس اليوم الذي قام فيه الأمن المصري مستعيناً بالقوات المسلحة بفض اعتصامات الإخوان المسلمين ومعارضي الانقلاب من ميادين القاهرة، وفي نفس اليوم الذي ادعت فيه وسائل إعلامية مصرية أن 11 من رجال الشرطة قتلوا على أيدي المتظاهرين.
وإذا كانت المحاكمات والإدانات الجماعية لا تحترم معايير العدالة الخاص بالأفراد والتي ينص عليها القانون الجنائي في أي بلد في العالم، فإن ما يحدث هو الفصل الأخير الكئيب من عمر الديمقراطية المصرية الوليدة والتي لم يكتب لها أن تعيش طويلاً، وهو كذلك رسالة للولايات المتحدة الأمريكية حتى تعيد النظر في دعم نظام الجنرال “عبدالفتاح السيسي”.
لنبدأ مع الأساسيات: يصعب على أية حكومة أن تقوم بتحميل المسؤولية الجنائية للأحداث التي تجري في بيئة تطغى عليها الفوضى لأفراد بعينهم، وكنتيجة لذلك، سوف يسعى أي نظام يريد الانتقام من العنف الجماعي عبر اعتقال جميع الأشخاص الذين يمكن أن يكونوا مرتبطين بالأحداث، بأي شكل من الأشكال، وسيقدمهم للمحاكمة في نفس الوقت.
فأين يقع الخلل في مثل هذه المحاكمات الجماعية؟ إنه التنصل من المبدأ الأساسي للمسؤولية الجنائية، والتي تفهم في العصر الحديث على أن المتهم اعتقل كفرد ويحاسب كفرد وليس كمجموعة، وليس هناك أي مبرر قانوني ليقدم شخص ارتكب مخالفات على أنها أعمال إجرامية سوى المبررات المعنوية، وليس كافياً أن تكون جزءاً من مجموعة تصرف بعض أعضائها بطريقة خاطئة حتى تتم إدانتك بتلك التهم، وهذا ينطبق على مدينة أو دولة أو جماعة عرقية، والتي لا ينبغي لها أن تحاكم مرتكب جناية بصفة جماعية، وهذا ينطبق أيضاً على الحشود المجتمعة والاحتجاجات مهما تراوحت درجة عفويتها.
ونتيجة لذلك، نجد أنه من الصحيح أن يقع إطلاق سراح بعض الأفراد المتورطين في المسؤولية المعنوية عن الضرر، وأنه من الصحيح أيضاً أن الحكومة الملتزمة بتطبيق القانون لديها الفرصة لاستدعاء الشهود في محاولة للتحقق من تورط بعض الأفراد في الانسياق في أعمال إجرامية معينة، حيث إن الثمن الذي تدفعه الحكومة لشرعنة تطبيق القانون الجنائي أخلاقياً هو المشقة التي ستثقل كاهلها في تجميع هذه الأدلة الفردية.
وعلى ضوء هذه المعطيات، فإنه ليس من المستغرب أن الأنظمة الأكثر ميلاً لاستخدام المحاكمات الجنائية الجماعية هي الأنظمة التي لا تهتم بشرعية قوانينها الجنائية، فإذا كان الغرض هو قمع المعارضة لصالح الحكومة وتحميل المسؤولية للمعارضة، فإن الهدف من المحاكمة أصبح التمسك بالسلطة وليس معاقبة الجناة الحقيقيين، وذلك عبر منظومة قضائية تكيل بمكيالين.
ومنذ صعود “السيسي” لرئاسة الجمهورية، كان من الجلي أن أهم الأولويات بالنسبة للحكومة المصرية هي إعادة التأسيس للسيطرة بالكامل على المجمع الأمني المتكون من الجيش والشرطة السرية والمحاكم، وفي محاكمات المنيا، في مارس الماضي حكم على 529 شخصاً بالإعدام تلاه حكم بإعدام 683 شخصاً آخر في شهر أبريل، ثم تم تخفيض العدد الإجمالي لأحكام الإعدام في وقت لاحق إلى حوالي 200، لتصبح المشكلة في أن أي تصدٍّ أو مقاومة للحكومة سيقابله عقوبة قاسية وعشوائية.
والمؤسف في الأمر هو أن هذا الحزم بالقانون أو بدونه يأتي في نفس الحين الذي تقوم فيه الولايات المتحدة الأمريكية بإعادة ترسيخ العلاقات مع حكومة “السيسي”، حيث التقى الرئيس “باراك أوباما” بـ”السيسي” رسمياً في نيويورك أثناء انعقاد الاجتماع العام للأمم المتحدة في نهاية سبتمبر، كما جاءت إعادة المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر متجاهلة وجود قانون يحرم إرسال المساعدات إلى أي بلد عرف انقلاباً عسكرياً.
يمكن أن نجد أن السبب وراء استعداد الولايات المتحدة لاحتضان “السيسي” هو الواقع السياسي، ففي نهاية المطاف، لقد فاز في معركته لقمع حكومة “د. محمد مرسي” المنتخبة ديمقراطياً.
- · والولايات المتحدة لديها سجل طويل في ميدان التحالف مع الحكام المستبدين في مصر، من “أنور السادات”، إلى “حسني مبارك”، كما أن أي نظام قابل للرضوخ للولايات المتحدة يعد حليفاً جذاباً نظراً لظروف الشرق الأوسط الحالية.
ولكن هناك ثمناً لتجديد التحالف مع حكومة غارقة في كل هذه الانتهاكات الصارخة لأبسط الحقوق الأساسية للمحاكمة العادلة، فأي شخص يراقب التناقضات الواقعة لن يفشل في ملاحظة أن الولايات المتحدة تتغاضى عن انتهاكات حلفائها لحقوق الإنسان، في حين تبدي مواقف حازمة من انتهاكات أعدائها الإستراتيجيين.
وقد يكون جواب أي كان بالشرق الأوسط رداً على ذلك هو أن الكل يعرف نفاق الولايات المتحدة فيما يتعلق باحترام الحقوق.. ومزيد النفاق لن يكلف شيئاً، ويمكن لهذا النوع من السخرية أن يبرر أي نتيجة، مهما بلغت.
والحقيقة هي أن الولايات المتحدة قد تضغط على “السيسي” للتراجع عن المحاكمات الجماعية التي تذكرنا بحملات التصفية “الإستالينية” للمعارضين السياسيين، وطالما لم يحدث ذلك، فإنها لاتزال متواطئة في تحويل وجهة العدالة الجنائية، فعندما يتعلق الأمر بالمطالبة بالامتثال لمعايير حقوق الإنسان، فالمصداقية حينها أمر بالغ الأهمية.
وإن لم تحرص الولايات المتحدة على المطالبة بالعدالة الجنائية الشرعية الآن، أي في الوقت الذي مازالت قادرة فيه على احتواء “السيسي” الذي ما زال يلتمس السبل المناسبة لحكمه، فإنها قد لا تجد فرصة لممارسة هذا الضغط في وقت لاحق.
(*) نوح فيلدمان (Noah Feldman): كاتب أمريكي وأستاذ قانون في كلية هارفارد للحقوق.
للاطلاع على المقال الأصلي:
http://www.stripes.com/opinion/arab-spring-gets-a-death-sentence-in-egypt-trial-1.317320