«إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ»، قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ»، قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ؟! قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضاً»، قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا؟! قَا
روى ابن حبان في صحيحه (الحديث رقم 6710) بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري: أَنَّ رَسُولَ اللهِ “صلى الله عليه وسلم” ، قَالَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ»، قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ»، قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ؟! قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضاً»، قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا؟! قَالَ: «إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ».
فقد توقفت عند هذا الحديث كثيراً، فكأن الرسول “صلى الله عليه وسلم” يحدثنا اليوم عن عصرنا الحاضر، وما نحن عليه من التفرق والتمزق والفتن التي كقطع الليل المظلم، وما وصلت إليه الأمة الإسلامية والعربية من تآمر بعضهم على بعض، وقتل بعضهم بعضاً – إلاّ مَنْ رحم ربي – ومن صرف أموال المسلمين بالمليارات، بل بمئات المليارات لقتل المسلمين وإحداث الفتن، والاضطرابات، وإزالة الأمن والاستقرار، والتعاون مع الأعداء حتى وصل البعض إلى التعاون مع الصهاينة المحتلين ضد إخوانهم المسلمين وضد المجاهدين المقاومين في فلسطين، والقدس الشريف.
التعاون مع الأعداء
كما أن شدة العداء المستحكم لدى البعض نحو التيار الإسلامي وجماعاته حتى ولو كانوا معروفين بالفكر المعتدل البعيد عن العنف والإرهاب؛ دفعت هذه العداوة الشديدة إلى التعاون الكبير مع الأعداء، وصرف المليارات من الدولارات للقضاء عليهم، والانقلاب على شرعيتهم.
ومع ذلك يرى المحللون العقلاء، والمفكرون الحكماء حتى من غير المسلمين، أن هذه التصرفات ليست لمصالح الأمة، ولا لمصالح الدول التي تدعم هذه الفتن واللاشرعية، كما أن الجميع يعلم أن الاستقرار منوط بالعدل والإنصاف والحرية وكرامة الإنسان، وعودة الشرعية، فالتجارب التي جرت خلال العقود السابقة تدل على أن الانقلاب العسكري على الشرعية في أمريكا الجنوبية وفي أفريقيا لم يحقق الأمن والأمان والاستقرار، إلى أنْ عادت الشرعية والحرية، وحقوق الشعب في الممارسة الديمقراطية، وما بوركينافاسو عنا ببعيد.
بل إن بعض الدول ساعدت أعداءها الذين تلبسوا بلباس الزور، وتعاونوا مع الشامتين الناقمين العائشين على الانتقام من الشعب الذي ثار ضده؛ حيث استطاعوا أن يخدعوا بعض الدول فساعدتهم، ثم اليوم أصبحت النتيجة خطيرة على الدولة المساندة أو الدول المجاورة كلها، وهذه التصرفات من بعض الدول لا يمكن تفسيرها في ظل العقل السليم، والفكر القويم، والتحليل البسيط، ناهيك عن التحليل الإستراتيجي.
منطق معوج: إن ما شاهدناه خلال هذه الفترة من تصرفات بعض الحكام، والعلمانيين الذين رضوا بالذل والعسكر والدكتاتورية كراهية لما سموه بـ«الإسلام السياسي» لا يقبله عقل سليم، ولا منطق مستقيم.
وليس الموضوع قاصراً على هؤلاء، بل إن حيرتنا تشمل ما تفعله الجماعات المتطرفة التي شوهت صورة الإسلام، وساعدت على إعادة الاحتلال والاستعمار، وأعطت التبريرات للدول الكبرى بالتحالف لتحقيق مآربها ومصالحها، فهي التي أعطت السبب لاحتلال أفغانستان، والقضاء على حكومة «طالبان»، بالإضافة إلى تكرار الفشل في الجزائر، وما ترتب على العنف من قتل عشرات الآلاف من الشباب، ثم الحيرة مازالت قائمة مما فعله النظام العراقي السابق في احتلال الكويت وما ترتب على ذلك من عودة الاحتلال والهيمنة الأمريكية، ومن الآثار الخطيرة التي يعدّ من أخطرها احتلال العراق وما ترتب عليه من نتائج خطيرة جداً مازالت آثارها قائمة إلى اليوم.. كل هذه التصرفات الفاشلة القاتلة التي تتكرر – بلا شك لأسباب – مازالت غامضة، ونحن في حيرة من أمرها.
إجابة شافية
لذلك جاء الكلام النبوي الشريف، والوحي الرباني المعصوم بمثابة إجابة شافية عن هذه الحيرة التي أصابتني، وأصابت غيري، لماذا يحدث كل هذا بين العرب؟ لماذا يفعل هؤلاء ما يضر بأنفسهم في المستقبل وبشعوبهم؟ لماذا؟ ولماذا؟ هل هم يدمرون أنفسهم وشعوبهم بأهوائهم؟ وهل؟ وهل؟
فقد أجاب الرسول “صلى الله عليه وسلم” بعبارة صريحة لا لبس فيها ولا غموض: «إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ»؛ وهذا يعني أنه عندما تُنزع العقول تحلّ محلها الأهواء، أهواء الجاه والاستعلاء والاستكبار، أهواء القتل وإذلال الآخرين ظناً من أن العظمة تبنى فوق جماجم الناس، وضرب جلودهم وإذلالهم، وظناً من البعض بأن الرعب يجب أن يتحقق مسيرة شهر بالظلم والبغي والعدوان، وظناً منهم بأن السيف يجب أن يستعمل في القتل، ونسوا آيات الرحمة، وأن القوة هي لحماية العدل والحق.
إن رسولنا الكريم “صلى الله عليه وسلم” قد وضع الدواء على الداء، والبلسم الشافي على الجرح النازف؛ حينما بيّن أن هؤلاء الذين يتصرفون هذه التصرفات قد نُزعت عنهم عقولهم، كما نزع عنهم نور الوحي، وبركة السماء؛ لأن مقتضاها التصرف بالحكمة والنظر إلى المآل، ودراسة التاريخ الحاضر والماضي لأمتنا في انتصاراتها وهزائمها وحضارتها وتخلفها، وقوتها وضعفها، ووحدتها وتمزقها، وانسجامها وعدم تنازعها، وأخوّتها وشقاقها.
دراسة التجارب
كما أن العقل السليم يقتضي دراسة التجارب الحالية والماضية الناجحة والفاشلة لسائر الأمم فقال تعالى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ (2)} (الحشر)؛ أي قيسوا أحوالكم بأحوال السابقين، وخذوا منهم العبرة، بل لا يكفي دراسة الماضي والحاضر لنا ولغيرنا حتى ولو كانت بمنتهى الدقة وأقصى التحليل، وإنما لابدّ أن يدرس معهما المستقبل من خلال التحليل الدقيق والتفكير العميق القائم على كل الاحتمالات المتوقعة، ثم دراسة كل احتمال ونتائجه الإيجابية أو السلبية كما يسمى اليوم بالتحليل السياسي، ونحن نسميه فقه المآلات ودراسة الواقع والواجب والتوقع، كما أن على الأمة المسلمة أن تستعمل سمعها وبصرها وكل ما آتاها الله تعالى في الغايات التي خلقت لها لأجل سعادة الدنيا والآخرة.
تقدم أوروبا
إن أوروبا تقدمت من خلال هذه الدراسات، وبنت وحدتها على ما اقتضته العقول وما دلت عليه من المصالح الاقتصادية والسياسية، ونحن المسلمين لدينا دين عظيم يدعو إلى الوحدة حتى يجعل الفرقة بمثابة الكفر، وإلى الحكمة التي هي ضالة المسلم، وإلى رعاية مقاصد الشريعة وهي تحقيق المصالح ودرء المفاسد، بالإضافة إلى العقول التي منحها الله تعالى لكل الأمم، ولكن الأمم ضلت عندما وصلت إلى مرحلة وصفها الله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ”179″} (الأعراف)، وحتى الخسران في الآخرة يعود إلى عدم استعمال العقول والسمع حيث يقول أهل النار: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ “10”} (الملك).
الاستعانة بأهل العلم
كما أن مقتضى العقل السليم أن يستعين هؤلاء الحكام بأهل العلم والفضل والإخلاص في جميع التخصصات التي يحتاج إليها، فيكون لديهم مستشارون من العلماء الفقهاء الربانيين لأمور الدين، ومستشارون متخصصون لقضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع ونحوهم، وأن يسمعوا لهم وينزلوا إلى آرائهم، وأن يفرحوا بالنقد البنَّاء، ولا يسمعوا لأهل النفاق، والرياء، ولا لمن ليس متخصصاً، وهذا ما أشار إليه الرسول الكريم “صلى الله عليه وسلم” من خطورة قلة الفقهاء الحكماء مع كثرة الخطباء والقراء؛ أي الحفظ دون الفقه – كما في عصرنا الحاضر – يقول الرسول الكريم “صلى الله عليه وسلم” في علامات آخر الزمان: «يتقارب الزمان، ويُقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرْج» (رواه مسلم في صحيحه، الحديث رقم 157).
وفي رواية أخرى رواها الطبراني (3/319) وغيره: «ويقل الفقهاء ويقبض العلم، ويكثر الهرْج»، قالوا: وما الهرْج؟ قال: «القتل بينكم، ثم يأتي بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال لا يجاوز تراقيهم، ثم يأتي زمان يجادل المنافق المشرك المؤمن»، وفي رواية صححها السيوطي في الجامع الصغير الحديث (رقم 4735) بلفظ: «سيأتي على أمتي زمان يكثر فيه القراء، ويقل الفقهاء، ويقبض العلم..».
لذلك فمشكلة عصرنا هو كثرة الخطباء والمفتين الذين قد يكونون قراء للقرآن الكريم دون تبصر، وللأحاديث الشريفة دون أن يكونوا من الفقهاء الجامعين بين علوم الوحي وعلوم العقل، وبين النص والحكمة، وبين المقاصد والأدلة الجزئية، وبين الواقع والمتوقع وفقه المآلات، وبين الوسائل وغاياتها، والذرائع ونتائجها، والأدوات وآثارها، ولذلك تجد من يفتي في قضية خطيرة لو وقع أقل منها في عصر الخليفة عمر “رضي الله عنه” لجمع لها أهل بدر.
والله المستعان.