عانت حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) منذ انطلاقتها في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، العديد من الخلافات الداخلية، بناءً لتباينات في وجهات النظر بين قادتها المؤسسين حول مسألة ما، أو بشأن صراعات لمكاسب قياديّة
عانت حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) منذ انطلاقتها في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، العديد من الخلافات الداخلية، بناءً لتباينات في وجهات النظر بين قادتها المؤسسين حول مسألة ما، أو بشأن صراعات لمكاسب قياديّة، والتي أنتجت انشقاقات ونزعات أخرى، بدايةً بانشقاق “أحمد جبريل” عام 1961م، ومروراً بانشقاق “صبري البنا” (أبو نضال) عام 1974م، و”أبو خالد العملة “عام 1976م، و”عبدالكريم حمدي” (أبو سائد) عام 1980م، والقيادي “نمر صالح” في أعقاب الحرب “الإسرائيلية” للأراضي اللبنانية عام 1982م، وانتهاءً بالحركة الانشقاقية (فتح الانتفاضة) التي قادها “سعيد مراغة” (أبو موسى) عام 1983م، وبرغم أن تلك الانشقاقات كانت تترك أثرها على قوة الحركة وعلاقاتها الخارجية، إلاّ أنها استطاعت المحافظة على نفسها، نظراً لوسع قاعدتها الشعبية، ودعم جهات عربية وأسباب أخرى، مكّنتها من تكريس سيطرتها على الجزء الأكبر من القضية الفلسطينية، ومن ثمّ إلى تغيير مسارها، من الكفاح المسلح إلى الطريق السياسي، والتي بدأت بإعلان الجزائر عام 1988م، ومروراً بمؤتمر مدريد عام 1990م، وانتهاءً باتفاق أوسلو عام 1993م، والذي تم بناءً عليه، تصميم وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية.
على أرض الوطن، لم يكن وضع الحركة أفضل حالاً، وبغض النظر عن معاناتها، من قِبل حركات وفصائل، كحركة “حماس”، و”الجهاد الإسلامي” وغيرهما، لمُعاداتها المشروع السياسي، حين اصطدمت بخلافات داخليّة قياديّة، مثل تنازع الصلاحيات، كما حصل بين الرئيس “ياسر عرفات”، و”أبو مازن” أثناء رئاسته لمجلس الوزراء الذي جرى استحداثه، تبعاً لمتطلبات المرحلة، وخلافات أخرى كانت تثور فيما بين أجهزة السلطة نفسها، والتي تصل إلى المواجهة بالحديد والنار.
بلغت الخلافات أوجهاً داخل الحركة، في أعقاب فشل مفاوضات “كامب ديفيد2″ عام 2000م، نتيجة قرار واشنطن و”إسرائيل”، تغيير القيادة الفلسطينية، والذي أفسح المجال لـ”دحلان” باتجاه السيطرة على السلطة، بمساعدة قُربهِ – كما الزعم – من الرؤى الأمريكية و”الإسرائيلية”، مستغلاً فترة “الانتفاضة 2″، بإحداث حالة من الفوضى والانفلات الأمني، في مواجهة الرئيس “ياسر عرفات”، والتي أدت في النهاية إلى انقسام الحركة بين تيارين؛ تيّار بقيادته بالاشتراك مع “أبومازن” برغم علمهما المُسبق بنوايا سيئة متبادلة، والتيار الذي يمثله الرئيس “أبو عمار”.
سارع “أبو مازن” منذ لحظة تولّيه السلطة أوائل عام 2005م، إلى تنفيذ خطّته ضد “دحلان”، وذلك باستخدام ما لديه من صلاحيات وإمكانيات حركية ورئاسية، لإزالة “دحلان” نهائياً عن المشهد السياسي والتنظيمي، معتمداً على انكشاف أسرار خطِرة، بعد سيطرة حركة “حماس” على السلطة منتصف عام 2007م، وتحميله مسؤولية تسليم القطاع لـ”حماس” من غير ثمن؛ الأمر الذي اضطر “دحلان” إلى تعظيم اتصالاته مع المقربين منه والمتعاطفين معه، في تحدٍّ علني للسلطة وتحديداً للرئيس “أبو مازن”، اتسعت على أثرها، هوّة الخلافات بينهما، وصلت إلى قيام الحركة بشطب اسمه من سجلاتها، وتعريته من كل صلاحياته، وتقديمه إلى القضاء، برغم علمها أن جملة الإجراءات لا تعمل على حسم الأمور، ففي أعقابها، كان “دحلان” يعتبر أن المسؤولية الملقاة على عاتقه، لا تنبع الأعباء كونه مسؤولاً أمام الذين منحوه تأييدهم فقط، بل تنبع المسؤولية السياسية والأخلاقية، لذلك واصل تحدّياته وبلا أي تردد أو حيرة، وزاد منها بعد تمكّنه من جلب المزيد من أولئك الذين أُصيبوا بخيبة أمل من “أبو مازن” لأي سبب كان، فعلاوة على استعداده لإثبات سلامته، والبرهنة على صوابية مواقفه، ورد التّهم إلى النحور، فقد تقدّم بالخطى أكثر، لإظهار قوّته عملياً في الميدان الساخن بطبيعته، والتي اتضحت بجلاء، في إلغاء الاحتفال بذكرى الراحل “أبو عمار”، والتي قام بتعويضها في مناسبةٍ ثانية، حينما قام نهاية الأسبوع الماضي، بدعوة أنصاره إلى التظاهر في مواجهة السلطة و”أبو مازن” تحديداً، بسبب قرار الحركة إلغاء عضويته وعدداً من أتباعه، ووعد بالتصعيد تباعاً.
بالتأكيد، فإن حركة “فتح” هناك وهنا، ساءها جدّاً تحديات “دحلان” المتتالية، وساءها أكثر، مشاهدة تلك المظاهرة، وهي وإن أبدت عدم دهشتها، إلاّ أنها تشعر بالمضض العميق في قرارة نفسها، باعتبارها تطورات لا تُبشر بخير، وخاصةً بعدما أصمّت “حماس” آذانها عن دعوتها لمنع التظاهرة، باعتبارها مشبوهة، وتهدف إلى شق الصف الفلسطيني.
ولا ريب، فقد مثّلت قضية “دحلان” القضية الأصعب لدى الحركة، باعتبارها “الشوكة في الحلق”؛ بسبب أنها ليست كالمشكلات الانشقاقية التي عاصرتها سابقاً، فالذين انشقوا ذهبوا إلى حال سبيلهم، واتخذوا أسماءً أخرى لتنظيماتهم، لكن هذه المرّة، فإن “دحلان” ينافس على قيادة الحركة ذاتها وبنفس اسمها، ولا يُستبعد في نظرها، أن يميل بتفكيره إلى قيادة السلطة الفلسطينية لاحقاً، وهذا ما يملأ صدرها خشيةً ورهباً، في ضوء ترتيبات “إسرائيلية” على الأقل، للخلاص من “أبو مازن” بناءً على نشاطاته باتجاه المجتمع الدولي، باعتبارها نشاطات انفرادية، ويزيد في البلاء لديها، تلك التكهّنات التي تُشير إلى أن منظومة علاقات جديدة يتم نسجها بين “دحلان” وحركة “حماس”، وحتى في ضوء احتمالات ضئيلة نحو تحقيقها، لعدم إمكانية الخلط بينهما كالزيت والماء، وهي تأتي في باب لغة المصالح، أو في سياق المماحكة والابتزاز السياسي لـ”أبو مازن”، ولكن هذا لا يبدو كافياً أمامها، في ضوء أن “حماس” لا تزال تفتح المجال أمام “دحلان”، كي يمارس أنشطته المختلفة داخل القطاع، وبأن يفعل ما بوسعه ضد رام الله بشكلٍ عام، باعتباره لديها أداةً ضغطٍ فاعلة.
بالتأكيد، وإذا ما استمرت الحال على هكذا منوال، فإن حركة “فتح”، ستواجه تقلّبات مصيرية خلال الأوقات الآتية، سيما وأن “دحلان” لا يُخفي سعيه باتجاه بناء نفسه كبديل حقيقي لـ”أبو مازن” وحتى في ظل مرشحين ومقربين آخرين، لكن لا ينفي ما تقدّم كله، حصول معجزة ما، تعود بالعِجلِ إلى بطن أمه، سيما وأن الساحة الفتحاوية تنشط سرّاً وعلانيةً، في سبيل توحيد صفوفها، لإدراكها الثقل السياسي، الذي يتمتع به “دحلان” ولتوقّعاتها المؤلمة التي قد تنجم عن مواصلة العداء.
(*) خانيونس – فلسطين