نطالع بين الحين والآخر ملامح ضباب رؤية حول ثورة 25 يناير، خاصة في جانب العائدين من سهرة 30 يونيو الحمراء، أو المتطالعين لاصطفاف هش وسريع بين شركاء الميدان القدامى، أو حتى من المتلاعبين باسمها في معسكر الانقلاب الذين يحاولون صك بقائهم المعيب والخاطئ ب
نطالع بين الحين والآخر ملامح ضباب رؤية حول ثورة 25 يناير، خاصة في جانب العائدين من سهرة 30 يونيو الحمراء، أو المتطالعين لاصطفاف هش وسريع بين شركاء الميدان القدامى، أو حتى من المتلاعبين باسمها في معسكر الانقلاب الذين يحاولون صك بقائهم المعيب والخاطئ باللعب على أوتارها، وهنا لنا وقفة ضبط بوصلة الوعي الثوري، حتى لا ندور في حلقة مفرغة، ويسحبنا مجتهد نبيل أو متحامل خبيث أو مجرم أخبث في نفق مظلم.
انطلقت شرارة 25 يناير، بناء على موجات احتجاج تراكمية طالت لعقود وجذَّرت معها بذور الثورة في التربة المصرية، سواء عبر النضال الطلابي أو السياسي أو الديني أو القومي العروبي الإسلامي، وكل المصريين المخلصين شاركوا في ذلك بنسب متفاوتة حسب الأوزان، وفي القلب منهم جماعة الإخوان المسلمين التي قامت على أكتافها الميدانية وبحضورها السياسي تجمعات نضالية عدة ككفاية والجمعية الوطنية للتغيير، وفي هذه العقود اتضحت أهداف للشعب المصري، ولخصها الحراك الينايري الوليد بإرادات شبابية فولاذية في شعارات أربعة: “العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية”، وهذا يدحض كلية سرقة فصيل للثورة، وإلا اتهم هذا الفصيل الجميع بسرقة نضاله التأسيسي للثورة بذات الطريقة.
ولقد ارتقى شهداء أبرار مع الانطلاقة الأولى، فانضم مطلب القصاص للأهداف الأربعة، ومع استمرار الحراك المقاوم لدولة الفساد العميقة، بعد مغادرة الميدان في 11 فبراير 2011م، وصولاً إلى الانطلاقة الكبرى لثورة 25 يناير رداً على الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013م، تعزز مطلب القصاص وتجذر؛ ليكون البند الخامس للأهداف إن لم يكن الأول لدى البعض، وذلك بما كسبت أيدي الانقلابيين الإرهابيين المجرمين من دماء حرام، وبما ارتكب مجازر ومحارق وكوارث بشرية لا مثيل لها في التاريخ المصري الحديث.
ومع استمرار المسار الثوري، ظهر هدفان جديدان، وهما الاستقلال الوطني الكامل، والهوية الإسلامية الحضارية لمصر، بعدما ظهر للجميع العداء السافر للحلف الصهيوني الأمريكي لثورات “الربيع العربي”، وفي القلب منها مصر، ورغبته في استمرار عهود التبعية والتغريب والعلمنة، فظهرت فعاليات حاضنة لهذين الهدفين، وشعارات: “لا تحكمنا أمريكا”، لن تركع أمة قائدها محمد صلى الله عليه وسلم”، وكتب الكثيرون في التنظير للهدفين والتأطير لهما، ومنهم د. رفيق حبيب، وآخرون، وتدخل بعدهم العالم الجليل الشيخ د. يوسف القرضاوي لتصحيح مفهوم الهوية، فيما يرى البعض أن الهدفين يمكن إدخالهما في معركة الحرية، إذ لا حرية بدون هوية، ولا هوية بدون حرية، ولا هوية ولا حرية بدون استقلال.
ومن رحم الأهداف الخامسة الأوائل محل الإجماع الثوري حتى تاريخه، حاول الثوار إقرارها كل بطريقته بعد إسقاط المخلوع “مبارك”، فمنهم من رأى استمرار المسار الثوري، ومنهم رأى اتخاذ مسار دستوري بجانب المسار الثوري، لتوفير شرعية دستورية لثورة 25 يناير تحول دون القفز عليها من دولة الفساد العميقة، ومن هنا تحققت مكتسبات عديدة لثورة 25 يناير قبل الانقلاب، نعتبرها مع الأهداف جناحي الثورة، ولا يجوز لطائر أن يطير بجناح واحد إن كتب له البقاء حياً حال فقده الجناح الآخر.
وهنا فمحاولات الفصل التام بين المكتسبات وبين الأهداف هو فصل لجسد ثورة 25 يناير، ومحاولات إبراز الأهداف على حساب المكتسبات هي محاولات طائشة غير واعية تضرب في صميم الثورة، ومحاولات تجميد المكتسبات لصالح إعلاء الأهداف هو اغتيال مباشر للأهداف التي قامت ثورة 25 يناير من أجلها، ولأول مرة في مصر يقف طلاب الحرية في مربع الشرعية، وتقف دولة العسكر الفاشية في مربع عدم الشرعية، وهو المكسب الأهم الذي وُثِّق دستورياً وتاريخياً.
إن استحضار “فوبيا” الإخوان أو فزاعة التيار الإسلامي في هذا المشهد، للزعم بأن كل مكتسبات ثورة 25 يناير من المسار الديمقراطي الدستوري، ذهبت للتيار الإسلامي وفي القلب منه الإخوان المسلمون، وبالتالي يجب تجميدها، هو انقلاب بوجه آخر على ثورة 25 يناير، فما الإرادة الشعبية الحرة النزيهة التي تجسدت في 5 استحقاقات انتخابية إلا أصل أصيل من هدف الثورة الثاني: الحرية، والعبث به هو عبث بأهداف الثورة جميعاً.
ومن أعجب ما سمعنا، هو التنظير غير الثوري الصادر من بعض الناطقين العائدين من سهرة 30 يونيو، عندما يقول أحدهم بعد تفكر وتدبر: إن الانقلاب العسكري هو انقلاب على ثورة 25 يناير وأهدافها ويصمت، أو يختصر ويقول هو انقلاب على ثورة 25 يناير، ثم يزيد سطراً من الشعر “الحلمنتشي” فيقول: وليس انقلاباً على حكم الإخوان! أو الشرعية الدستورية، ويجد صعوبة نفسية في نطق اسم التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب، وهو بذلك يضرب الثورة في مقتل بسبب خصومة فكرية محلها الغرف المغلقة أو الصناديق الشفافة.
إن من حق الجميع الاختلاف على المسار الإصلاحي الذي انتهجته جماعة الإخوان المسلمين في المسار التشريعي عقب فوزها وحزبها السياسي بأكثرية برلمانية، أو الذي انتهجه “د. محمد مرسي”، رئيس الجمهورية، والذي – للعلم – قدم استقالته من الجماعة وحزبها عقب فوزه، في التعامل مع مؤسسات دولة الفساد العميقة، ولكن غير مبرر ولا مفهوم أن يختلف أحد على المسار الديمقراطي الدستوري وإفرازاته، لحسم آليات إدارة المشهد السياسي بعد الثورة، مهما كانت ملاحظاته على الأداء أو اقتراحاته الحالية للمستقبل، فالنتائج ملك الوطن والشعب هو صاحب القرار ومصدر السلطات.
إن الشرعية الدستورية قرار شعبي أصيل ومكتسب ثوري جذري لثورة 25 يناير يجسد أهداف العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، وهي ملك للشعب وللوطن وملزمة للدولة، وليست مسؤولية حصرية لفصيل أو حركة أو جماعة، وبالتالي فعزلها عن ثورة 25 يناير هو إقرار ضمني بالانقلاب الذي تم ضد ثورة 25 يناير.. الأهداف والمكتسبات معاً!
المكتسبات ليس في الشرعية الدستورية التي أفرزت رئيساً منتخباً وبرلماناً شعبياً ودستوراً حاز على أعلى نسبة توافق شعبي، ولكن في امتلاك الإرادة التي مكنت الأحرار من استكمال ثورة 25 يناير في أحلك الظروف، بينما أعداء الثورة يطلقون بيان الموت الأول في 3 يوليو الأسود، الإرادة التي مكنت المصريين للمرة الأولى في تقرير بعض الإنجازات الثورية على مدار 4 سنوات ولو حتى إنجازات جزئية تصب تراكمياً في الإنجاز الأكبر المترقب بدحر الانقلاب وهدم دولة الفساد العميقة وإتمام الثورة وإقرار أهدافها واستكمال مكتسباتها.
وقد يقول قائل: إن المكتسبات قد تعيد بعض المشاركين في الانقلاب لواجهة القرار مثل حزب “الزور” في البرلمان، وقد تعطي العسكر غطاء ببنودهم في دستور مصر الأصلي الصادر في عام 2012م، ونقول: نزع “الدمل” من جسد إنسان لا يعني نزع الجسد كله، وتطهير ثوب ليس مدعاة لحرقه أو تمزيقه، وفي الطاولات تضبط المسائل بما لا يخالف الثوابت الثورية وبمزيد من الأفكار الإبداعية التطهيرية المبصرة.
الأمر الخطير، أيضاً، في المشهد، هو محاولات البعض لتصفير وتخطي حراك 25 يناير ضد الانقلاب، لبدء تدشين ثورة جديدة، وهو ما فشل وسيفشل بإذن الله عز وجل في أي محطة جديدة؛ لأن محاولات تأسيس ثورة جديدة، لا انطلاقات جديدة، لثورة واحدة مستمرة أطلقت أولى طلقات مخاضها في 25 يناير 2011م، مدعاة كي تأخذ الثورة مساراً معبراً عن الواقع وعن التضحيات برأي البعض، حتى لا يصب ذلك العبث في تقنين الانقلاب ومسارات التبعية والهيمنة.
إن ثورة 25 يناير لها ثوابتها تمكن في أهدافها ومكتسباتها معاً، وأي تفاصيل لا تعبث بشكل أو بآخر بالثوابت وتكاملها، محلها طاولة النقاش والتداول الثوري، أما تضييع الوقت في اللف والدوران والانحراف عن المسار، وصك مصطلحات لا تسمن ولا تغني من جوع لزيادة التدليس، لن يزيد المتأخرين إلا تأخراً، ولن يزيد السابقين إلا تقدماً وثباتاً، وساعتها سيندم فلاسفة النكسة وفي مقدمتهم “الهيكل العظمي الناطق”!