سعت إدارة الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” إلى رسم إستراتيجية كبرى لمنطقة الشرق الأوسط؛ الأمر الذي أوقعها في مشكلة كبيرة، ومما زاد الأمر سوءاً فشل واشنطن في التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وللمرة الأولى منذ السبعينيات على الأقل، لم يعتمد النجاح في تحقي
سعت إدارة الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” إلى رسم إستراتيجية كبرى لمنطقة الشرق الأوسط؛ الأمر الذي أوقعها في مشكلة كبيرة، ومما زاد الأمر سوءاً فشل واشنطن في التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وللمرة الأولى منذ السبعينيات على الأقل، لم يعتمد النجاح في تحقيق الأهداف الغربية في الشرق الأوسط على اختيار حليف في التنافس بين إيران الشيعية والدول العربية السُّنية، بل قام على تخفيف الانقسام، حتى نتمكن من العمل مع كلا الجانبين ضد تهديد خطير هو التعصب الأصولي السُّني المتمثل في “داعش”.
يعتبر الشرق الأوسط منطقة مضطربة بشكل كبير مع تزايد نسق التطرف في أرجائه، ففي سورية والعراق تقدم “داعش” صورة محرفة عن أهل السُّنة، تزداد مخاوف الدول العربية من مصير المنطقة بالتوازي مع المخاوف الناتجة عن المطالب الشعبية للتغيير، في حين تتجلى الانقسامات بين حلفاء أمريكا بشكل واضح وعميق، فتبدي المملكة العربية السعودية من جهتها عداءً تجاه جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك الشأن في مصر والإمارات العربية المتحدة، في حين نجد أن كلاً من قطر وتركيا تحتضنان الجماعة بصدر رحب، وفي الوقت نفسه، ظهرت في كامل المنطقة الممتدة من لبنان إلى باكستان اضطرابات غير مباشرة، نتيجةً لمحاولات السيطرة على المنطقة من جانب السعودية وإيران.
وقد أصبح هذا الانقسام الإقليمي يمثل مشكلة في حد ذاتها، وعقبة في طريق الولايات المتحدة السائرة نحو إرساء إستراتيجية كبرى تضمن استقرار المنطقة.
من الواضح أن تحويل اهتمام الولايات المتحدة بعيداً عن الشرق الأوسط بالتركيز على آسيا لم يعد خياراً، إذ يظهر أن إدارة “أوباما” بدأت تنجح في دحر مقاتلي “داعش” عسكرياً، معتمدةً على دعم الحكومة العراقية وحشد حلفائها للتدخل ضد هذه القوة المتطرفة، لكن ذلك يعتبر أكثر من الخطة الإستراتيجية في إدارة الأزمة.
إن أي إستراتيجية ترمي إلى النجاح، تتطلب أهدافاً ذات مدى أبعد بكثير فيما يتعلق بتعزيز المؤسسات الوطنية والحدود، والسيطرة على الصراعات الإقليمية واحتواء التطرف، حتى لا نحتاج للتدخل الأمريكي مجدداً.
وباختصار، تدرك أمريكا أنها في حاجة لشركاء من السُّنة ومن الشيعة على حد سواء؛ مما يمكنها من احتواء الصراعات وحلها، وتوحيد الموقف الإقليمي حول هدف واحد ألا وهو محاربة “داعش” وتتبع بقاياها.
تمتلك أمريكا عديد الحلفاء السُّنة، لكنها تدرك الآن أكثر من أي وقت مضى أن دخول حليف شيعي على الخط بات ضرورياً؛ نظراً لاجتياح “داعش” لشمال غرب العراق، فقد وجدت كل من أمريكا وإيران نفسيهما في تعاون جزئي، حيث أضعفت القوة الجوية الأمريكية مواقع المتشددين، فيما قامت المليشيات العراقية المدعومة من قبل جماعات الحرس الثوري الإسلامي (الإيراني) بتحرير قرية أمرلي، كما أدى تعاون مماثل غير معلن إلى الإطاحة برئيس الوزراء العراقي “نوري المالكي”، المنحاز طائفياً بهدف امتصاص غضب السُّنة.
وإن كانت مشكلات أمريكا مع إيران، مهما تفاوت عمقها، لم تعد منيعة على أدوات الدبلوماسية، كما كانت بعد عام 1979م، ولكن التعصب الذي تبديه “داعش” يبدو أنه هو القوة الثورية الجديدة التي تهدد النظام الدولي أكثر مما كانت عليه إيران.
وكــرد فعل، اتخذ الرئيس “أوباما” الخطوات التي يمكن أن تتطور إلى إستراتيجية كبرى جديدة، فحاول التحالف مع العرب بغرض تفكيك “داعش”، ثم بدأ في محاولات للاتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي؛ مما يسمح لها بالعمل بعلنية ضد تطرف “داعش”، فيما يبقى جلياً أن الآمال متعلقة في إنشاء تحالف دائم بين الأنظمة السُّنية والسلطات الشيعية في المنطقة، لاحتواء تطرف “داعــش” الذي يشتركون في اعتباره خطراً يهددهم.
ولكن لا يمكن لإستراتيجية طويلة المدى أن تنتهي عند هذا الحد، فمشكلات الشرق الأوسط معقدة ومستمرة على الدوام، خاصة وأن الثقة تكاد تنعدم بالمنطقة، حيث يعتقد قادة العرب، على سبيل المثال، أنه من الممكن احتواء “داعش”، ولكنهم ليسوا مقتنعين أنه يمكنهم قول نفس الشيء بالنسبة لإيران في صورة ما إذا لوحظ أي تحرك من طرفها.
ولكن حتى وإن تم تفكيك “داعش”، فإن انقسامات العرب وإيران ستواصل تفاقمها بشأن بسط النفوذ بالمنطقة، وسيظلون تحت تهديد الوسطاء الذين يهددون السلام بالمنطقة.
في الوقت ذاته، لن تزول الهوة ما بين إيران وأمريكا حتى ولو توصلوا لاتفاق بشأن برنامجها النووي، ولن تعود العلاقات بين أمريكا والعالم العربي إلى القرابة التي كانت عليها، خاصة وأن التملص الأمريكي من مشكلات المنطقة بعلة التفرغ لآسيا قد زعزع الثقة في مدى صدق المزاعم الأمريكية.
ويتطلب إرساء الاستقرار بالشرق الأوسط مواصلة التعامل بين الطرفين بالمنطقة، الشيء الذي سيكون أسهل كل ما أسرعوا في الشروع في ذلك، وباعتبار الانقسامات تمثل العدو الأبرز الذي يهدد المنطقة، فإن جبر ضررها وتوحيد تلك الدول يمثل الأولوية الأبرز.
وطال ما تواصل أمريكا وإيران المماطلة في الاتفاق حول البرنامج النووي؛ ما سيصعب بلوغ أهم أهداف الإستراتيجية الكبرى المنشودة؛ ألا وهي إنشاء شرق أوسط قادر على حل اختلافاته دون استدراج الولايات المتحدة في حروب جديدة؛ وبالتالي يمكن العبور إلى مرحلة أسمى تهدف إلى إرساء الأمن في آسيا وتحقيق الازدهار العالمي، وإيجاد حلول لمعضلة تغيير المناخ.
وكل مماطلة من هذه الأطراف ستعني بالأساس تأجيج الصراعات داخل المنطقة؛ مما سيزيد الطين بلة في كل من سورية والعراق؛ الأمر الذي يصب في مصلحة المتطرفين لا غير، والتالي فإن التعجيل بالوصول لاتفاق بشأن إيران صار ضرورياً.
وفيما يرى الأمريكيون أنهم ساعدوا أوروبا الغربية التي دمرتها رحى الحرب لتحقيق ازدهار وفعل ما كان يبدو مستحيلاً أي بناء قاعدة دائمة للسلام، فإنهم يرون بالتوازي أحقية الشرق الأوسط في نبذ الصراعات والتوحد في سبيل الارتقاء إلى تحقيق ما آلت إليه دول أوروبا الشرقية، وذلك هو السبيل الأضمن لأمريكا للتملص من مشكلات الشرق الأوسط.
للإطلاع على نص المقال: