من تجليات الانقلاب العسكري الدموي الفاشي أنه كشف عن ثقافة يمكن تصنيفها تحت عنوان “ثقافة الخدّامين”، ويتولاها “المثقفون الخدم”، وأغلبهم يدّعون النضال والتقدمية والتنوير والحداثة، ولكنهم على امتداد أعمارهم غير المباركة يجلسون تحت أحذية البيادة الحاكمة
من تجليات الانقلاب العسكري الدموي الفاشي أنه كشف عن ثقافة يمكن تصنيفها تحت عنوان “ثقافة الخدّامين”، ويتولاها “المثقفون الخدم”، وأغلبهم يدّعون النضال والتقدمية والتنوير والحداثة، ولكنهم على امتداد أعمارهم غير المباركة يجلسون تحت أحذية البيادة الحاكمة يمسحونها ويلوّنونها ويلمّعونها ويدعون لها بطول العمر لتستمر في إطعامهم وقهر الشعب المسكين والتنكيل به وتخريب عقله وتدمير مستقبله.
بين يديّ عدد من مجلة أسبوعية تصدر في قطع كبير عن دار حكومية يحمل (رقم 4459) صدر بتاريخ 24 مارس 2010م، الغلاف الرئيس عليه صورة الرئيس العسكري المخلوع “مبارك” تملأ فضاء الصفحة، والعنوان الضخم بمناسبة سفره إلى ألمانيا لإجراء جراحة وعودته من هناك: “عودة الرئيس.. عودة الروح”، وتحت العنوان تسعة أسماء صحفية مكتوبة ببنط بارز، ومعظمهم ينتمون إلى ما يسمى التيار الناصري، أولهم كان نقيباً للصحفيين أكثر من مرة وجاء مقاله على ثلاث صفحات كاملة (4 – 6) تحت عنوان “لماذا يحس المصريون أنهم أكثر أمنا مع مبارك؟”، وثانيهم رئيس تحرير سابق لجريدة يومية حكومية وجاء مقاله على صفحة كاملة تحت عنوان “أمني ومعي كل البسطاء”، ملأه بالشتائم للمعارضين وتمنى أن يقضي الرئيس فترة علاجه بعيداً عن سخافات ورزالات هذه القلة المعارضة من التافهين والأقزام كما سماهم!
وجاء بعده شيوعي حكومي كان رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة صحفية حكومية ليكتب عن عودة الرئيس على صفحتين كاملتين، ويشير إلى أحد صناع الشائعات وضرورة كشفه مع غيره، ويكتب شخص رابع عن المواطن “محمد حسني مبارك”، والوحشة الإنسانية بعد سفره إلى ألمانيا، ويسرد بعض الحكايات التي كان طرفاً فيها، منها سؤال “مبارك” لطفل في معرض الكتاب عما أكله؟! وحين يقول الطفل: فول! يكمل له “مبارك”: وعيش طبعاً! لينتهي المذكور إلى أن المواطن “مبارك” أسّس شرعية المواطن في قلوب الناس!
شخص خامس كان يتولى رئاسة تحرير إحدى المجلات الأسبوعية جعل عودة “مبارك” من ألمانيا عودة للروح المصرية! وأشار إلى متابعة “مبارك” لأدق التطورات في أحوال البلاد والعباد لأنه واحد من المصريين البسطاء!
الآخرون أقل أهمية في خدمة النظام الاستبدادي الفاشي كتبوا تحت عناوين من عينة: “والدي وأخي، مين لمصر غيرك يا ريس، السيادة الوطنية، واحد من الناس..”.
هؤلاء الذين امتدحوا “مبارك” وهو عائد من رحلة العلاج وجعلوه حبيباً للملايين، وإنساناً بسيطاً منحازاً إلى البسطاء والفقراء، وصوروه صمام الأمان للبلاد والعباد، انقلبوا علية بزاوية مستقيمة عقب إسقاطه في 11 فبراير، “وطلّعوا فيه القطط الفطسانة”، وتسافلوا في سبّه وشتم زوجته وجعلوه زير نساء!
هذه ثقافة الخدامين الذين لا تحكمهم قيم ولا أخلاق ولا مُثل، فلسفتهم هي السعي لدغدغة الطاغية أو القوى التي تملك السلطة الحقيقية أو ما يسمى بالدولة العميقة، حتى تولى الرئيس الشرعي “محمد مرسي” تقاليد الحكم بانتخابات نزيهة شهد لها العالم كله، فكانوا أداة في يد الدولة العميقة التي أنبأتهم أن الشرعية لن تستمر، وأن الانقلاب قادم لا محالة، فابتلعوا حبوب الشجاعة، وهاجموا الرئيس المحترم المثالي الذي كان يؤمن بالحرية والديمقراطية إلى آخر مدى، ولم يتخذ إجراء واحداً ضد سافل أو سفيه أو بذيء، فتمادوا في لؤمهم وخستهم وانحطاطهم وشجاعتهم المفتعلة حتى تم الانقلاب، وتحولوا بعده مرة أخرى إلى مسح البيادة وتلميعها، واستعادت لغتهم نعومة لغة العبيد التي سادت في عهد “مبارك”!
لا ينهض شعب بأمثال هؤلاء الكتبة الخدم، ولكنه ينهض بالكتَّاب الشرفاء الذين يملكون القيم والأخلاق ويدافعون عنها حتى الموت، إيماناً بها واحتساباً لله.
ومع ذلك، فإن الكتبة الخدم أو المثقفين الخدم لا يتورعون عن ادعاء الثورية واتهام غيرهم بالمتاجرة بالكلمة، يؤيدون الانقلابات العسكرية الدموية، ويصفقون لقتل الأبرياء وإحراق جثثهم، ويغنون للطغاة ويؤلهونهم، ويعزفون معهم على ربابة الإرهاب المفتعل أو المختلق.
في مؤتمر ثقافي صنعته الدولة العميقة مؤخراً بإحدى مدن الدلتا، عينت شخصاً أميناً له، فأعلن المذكور أن “الساعة الفارقة التي تعيشها المنطقة الآن كشفت – بجلاء – انتهازية عدد كبير من المتحوّلين الذين ييمّمون شطر المشهد المتحرر فيما قلوبهم لا تزال تطوف بمعابد الأنظمة المقيدة، كما كشفت عجز هؤلاء المتاجرين بأحلام الإنسان عن تقديم بضاعتهم الجيدة، فالذائقة المتكلسة وإعادة تدوير النفايات الثقافية وتعليب الرؤى سابقة التحنيط لا مكان لها في شارع ينتظر الآن شعراً ورواية وموسيقى وتشكيلاً ومسرحاً وسينما جديدة”.
وأضاف المذكور: “ليس مطلوباً أن يسارع المثقفون بتغيير جلودهم والركض باتجاه ما تسفر عنه التحركات العربية من نتائج، لكن من الواجب التأكيد على ضرورة إعادة النظر وليس تغيير الجلد ومراجعة المشهد الإبداعي والتكلسات الذائقية والمقولات المحنطة”.
ما هذه السمادير التي يقولها خادم العسكر الذي بشّرنا بأن نساء مصر ستحبل بنجم ساري عسكر الذي أهرق الدماء البريئة، وسجن عشرات الألوف من أشرف الرجال، واغتصب رجاله النساء الطاهرات في السجون والمعتقلات، وصادر الأموال الحلال، وكمم الأفواه وأغلق الصحف والقنوات، وقبل ذلك وبعده حارب الإسلام فأحرق مسجدي رابعة والفتح، وأغلق 3400 مسجد، وحكم بالإعدام على ألف وستمائة بريء، وعلى مئات آخرين بالمؤبدات، وفصل من الجامعة عشرات الأساتذة، ومئات الطلاب، وحرم الفقراء من المدن الجامعية، واقتحم الجامعات بمدرعاته ورصاصه الحي، وملأ شوارع مصر وميادينها بمئات الدبابات والمدرعات منذ أسقط الشعب في ثورة يناير كنز اليهود الإستراتيجي!
إن المثقفين الخدم لا يخجلون في تحولاتهم الفجة التي تجعلهم يسجدون على أقدام الجلادين والطغاة، ولا يجدون في ذلك غضاضة أو أمراً مشيناً، فعلوا ذلك مع “جمال عبدالناصر”، و”صدام حسين” التكريتي، و”بشار حافظ الأسد”، و”معمر أبو منيار القذافي”، و”زين العابدين بن علي”، و”محمد حسني مبارك”، ويفعلونه الآن مع ساري عسكر، وعلى استعداد أن يفعلوه مع غيرهم.
ومن بجاحتهم أنهم يتحدثون عن النضال والتقدمية والإستراتيجية الثقافية، ويدعون نساء مصر لتحبل بنجم ساري عسكر الانقلاب.. آه يا خدم!