د. مصطفى يوسف اللداوي
هل ينقلب السحر على الساحر، ويخسر المقامرون في أسواق النفط العالمية، الذين أرادوا أن يوجهوا لبعض الدول المنتجة والمصدرة له ضرباتٍ قاسية لاقتصادهم، لتزيد في أزمتهم، ولتفاقم من معاناتهم، ولتحد من نفوذهم ونشاطهم، ولتضعفهم وتحول دون تدخلهم في القضايا الدولية والإقليمية، ولتوقف دعمهم ومساندتهم لجماعاتٍ وتنظيماتٍ “إرهابية”، ولتتخلص من ازعاجهم وعرقلتهم لبعض المشاريع الدولية والإقليمية، لاعتقادها أن اقتصاد هذه الدول “المزعجة” يقوم على النفط ويتأثر به، وأن انهيار أسعاره سينعكس سلباً عليهم، وسيحد من دورهم، وسيقلل من فرص انتعاش اقتصادهم، وسيشغلهم بأنفسهم عن غيرهم.
لم يكن يعتقد المخططون للعبث في الأسعار العالمية للنفط أن الدوائر ستدور عليهم، وأن طباخ السم لا محالة سيذوقه، وسيلقى بما صنعت يداه حتفه، وأنهم لن يكونوا بمنجاةٍ من تداعيات القضية، وأن شركاءهم في المؤامرة لن يكونوا مخلصين لهم، ولا صادقين معهم، ولن يحافظوا على اقتصادهم، ولن تهمهم مصالح بلادهم، ولا شؤون أوطانهم.
إذ أنهم كانوا يحلمون منذ أمدٍ بعيد بالسيطرة على أسواق النفط، وتجريد منتجيه من نفوذه وقوته، واخراجه من دائرة السيطرة والهيمنة، والاحتكار والتسلط، إذ هو سلاح وقوة، وعامل تأثير وأداة ضغط، فهم لم ينسوا يوماً أن العرب لوحوا به، واستخدموه سلاحاً فاعلاً في أيديهم أثناء حرب أكتوبر عام 1973، وأنهم هددوا دول العالم برفع أسعاره، وتقييد تصديره، وتوظيفه في المعركة العسكرية الناشبة بين العرب والكيان الصهيوني.
يبدو أن الأزمة ستنعكس على المتسببين فيها سلباً عليهم، وسترتد عليهم ضرراً، فالنار قد تشتعل في بيوتهم، وقد تحرق ثيابهم، وكأنهم من حيث لا يدرون قد حرقوا بلعبتهم أصابعهم، وآلموا أنفسهم، إذ أنهم لم يكونوا يتوقعون أن العائدات ستنخفض إلى أقل من النصف، وأن المنافسين لهم سيزيدون في انتاجهم لتعويض الخسارة التي أصابتهم، وأن البدائل ستنشط، ومصادر النفط الجديدة ستنافس بقوة، وستغزو أسواقهم، وستحل محلهم، الأمر الذي سيزيد في حجم المعروض العالمي من النفط، والذي سيؤدي إلى انخفاضٍ أكبر في الأسعار، وتدهورٍ أشد في صندوق العائدات، الذي يقوم أساساً لدى البعض على النفط والغاز، إذ لا يوجد ما يعمره من المشاريع الاقتصادية سواهما، ولا ما ينعشه من المنتجات الصناعية والزراعية غيرهما.
لا يخفي كثيرٌ من المواطنين العرب شماتتهم في الأنظمة العربية وغيرها التي شاركت في اللعبة، وساهمت في تخفيض أسعار النفط العالمية، الأمر الذي أدى إلى تراجع الميزانيات، وانحسار المشاريع، وتخفيض النفقات، وترشيد الاستهلاك، وتقنين نفقات ومصاريف المسؤولين، الذين اعتادوا على تبديد ثروات البلاد، والعبث بحقوق المواطنين، والتفريط في خيرات الشعوب وتسخيرها لآخرين، وتوظيفها فيما لا يخدم الشعوب، ولا يعود بالنفع على الأمة، إذ لا يستفيد من عائدات النفط سوى قلة، ولا ينتفع بها سوى النخبة الحاكمة وبطانتها.
علماً أن العديد من المسؤولين لا يظهرون حماسةً للمضي في هذه اللعبة، ولا يريدون أن يندفعوا فيها أكثر، فهم يعلمون أن اقتصاديات بلادهم دون النفط هشة وضعيفة، بل معدومة وغير فاعلة، في حين أن الدول الكبرى التي خططت وأملت وشاركت، تتمتع باقتصادٍ عملاقٍ، وانتاجٍ خيالي، صناعي وزراعي، يكفيها مؤونة الحاجة، ويعوضها عن الانخفاض الحادث، الأمر الذي يبقي على الميزان التجاري دوماً لصالحهم، كون أغلب الدول النفطية لا تنتج ما تريد، ولا تزرع ما تحتاج، ولا تصنع ما يلزمها، وإنما تستورد كل شئ من الدول الصناعية، التي تعي كيف تتحكم في الأسواق، وتلعب في الأسعار، بما يخدم مصالحها، ويزيد في دخلها القومي، ولا يهمها غيرها، ولا يعنيها سوى أوطانها.
ربما استبشر المواطنون العرب خيراً في بداية الأزمة، إذ ظنوا أن انخفاض أسعار النفط عالمياً، وزيادة المعروض منه في الأسواق، ستؤدي إلى انخفاض أسعار المحروقات في البلاد، وستنعكس إيجاباً على الأسعار العامة في المواد الاستهلاكية ومتطلبات الحياة، على اعتبار أن كل الخدمات الأخرى، والسلع الاقتصادية ترتبط بالنفط، الذي هو الوقود المحرك والمنتج لكافة الخدمات والسلع، وأن أي انخفاض فيه سيقود حتماً إلى انخفاضٍ موازي في الأسعار الأخرى، وذلك بالقياس على نفس القاعدة، التي تؤدي إلى رفع الأسعار العامة عند ارتفاع أسعار النفط، حيت ترتفع تعرفة المواصلات، وأسعار الخبز وفاتورة الكهرباء وقارورة الغاز وغير ذلك مما لا يستغني عنه المواطنون، الفقراء والأغنياء على السواء.
لكن الواقع جاء مخيباً للآمال، وكانت التداعيات عكس التوقعات والآمال، إذ بقيت الأسعار على حالها، بل ارتفع بعضها، وزادت نسبة الضرائب المجبية، والرسوم المفروضة، وشطبت الاعفاءات الضريبية، وعاد الموظفون إلى السجلات القديمة والدفاتر العتيقة، وبحثوا عن المتأخرين في السداد، والمقصرين في الأداء، وطالبوهم بحقوق الدولة، وبضرورة تسديد المستحقات المتأخرة المفروضة عليهم، وقد نشهد في الأيام القادمة قيام الحكومات ببيع ممتلكاتها، وتخصيص مرافقها، وتلزيم مشاريعها، طلباً للمال، وبحثاً عن التعويض.
وبدا أن انخفاض أسعار النفط صار لعنةً على شعوب الدول التي شاركت حكوماتها في هذه اللعبة، ذلك أنها اتجهت إلى جيوب مواطنيها، ومدخرات أبنائها، لتعيد الانتعاش إلى ميزانياتها، ولتعمر صناديقها المالية التي باتت مهددة بالنضوب والجفاف، لقلة العوائد وارتفاع نسبة السحوبات، وعدم تراجع مستوى المصاريف والنفقات، وكأن علاج تراجع الدخل القومي سيكون على حساب المواطنين ومن جيوبهم، أو أنه جاء عقاباً لهم على أحلامهم، وتأديباً لهم على سوء نواياهم، وشماتتهم بحكوماتهم، وفرحهم بما أصاب أنظمة بلادهم.
لكن الحال قد تغير، واختلف الحساب عن البيدر، فهل تتبدل موازين القوى النفطية العربية، وهل سيزول نفوذها وتأثيرها، وهل سيحصد زراع الفساد، ومبذروا الأموال، والمتهاونون في ثروات شعوبهم، الكرام مع العدو، والبخلاء مع الأخ والقريب، ثمار انحرافهم، ونتائج فسادهم، وهم الذين اعتادوا على شراء الذمم والضمائر، وإفساد العقول وتسميم الأفكار، ورهن الشخصيات واستعباد المبدعين، وشراء كل شئ بالمال، التقانة والجنس، والعلم والمتعة، والصحافة والسخافة، والفضائيات والملاهي، والإعلام ونوادي القمار.
كم كنا نأمل أن تفكر الأنظمة العربية في السلاح الذي تملك، وفي الخيرات التي تفضل الله بها علينا، وخصنا بها دون غيرنا من الأمم، وأن تستغل هذه النعم الربانية في رفعة أمتها، وفي النهوض بأحوال شعوبها، ومساعدة المحتاجين منهم، والتوسيع على الفقراء والمعذبين بينهم، وألا تكون شريكاً في مؤامرةٍ، ولا طرفاً في خدعةٍ ومكيدةٍ لا تؤذي إلا العرب، ولا تضر إلا قضايانا الوطنية والقومية العادلة.