في العام 2015م، تدخل ثورات “الربيع العربي” وتداعياتها السلبية والإيجابية عامها الخامس، في ظل احتدام الصراع الإقليمي والدولي، وما تفرع عنه من حروب عسكرية وحركات إرهابية مثل “داعش” وأخواتها،
في العام 2015م، تدخل ثورات “الربيع العربي” وتداعياتها السلبية والإيجابية عامها الخامس، في ظل احتدام الصراع الإقليمي والدولي، وما تفرع عنه من حروب عسكرية وحركات إرهابية مثل “داعش” وأخواتها، وتحالفات سياسية ومفاوضات نووية، فضلاً عن عقوبات اقتصادية، مع الأخذ في الاعتبار “حرب النفط” وأهدافها “الجيوسياسية”، وما نتج عنها من أضرار كبيرة بسبب تراجع الأسعار، ومدى ارتباط ذلك بمناورات عسكرية قامت بها إيران في أواخر ديسمبر 2014م بدعم روسي، في إطار “عرض قوة”، خصوصاً وأنها تشمل مضيق “هرمز” الذي يشكل مكانه إستراتيجية مهمة في التجارة العالمية، ويمر فيه أكثر من 40% من تجارة النفط، ويعد ممراً حيوياً للبلدان الخليجية المنتجة.
وفي خضم تلك الثورات، برز مشروعان؛ الأول: أمريكي بما يسمى “الشرق الأوسط الجديد”، والثاني: يتضمن رؤية إيران التاريخية في ولادة “شرق أوسط إسلامي”، وقد اشتد الصراع حول المشروعين من خلال ثلاثة محاور رئيسة؛ المحور “الإسرائيلي”، والمحور الإيراني، والمحور التركي، وإذا كانت الثورة السورية التي اندلعت في مارس 2011م، قد أضعفت المشروع الإيراني بعدما اعتمدت طهران طويلاً على نظام “بشار الأسد” لتوسيع دائرة نفوذها الإقليمي، فإن التقارب الأمريكي الإيراني في إطار إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، قد أعطى إيران دوراً محورياً في المنطقة، على أمل أن يخدم هذا الدور الإستراتيجية الأمريكية، بما سيرسخ دول الإقليم طواعية، بسبب حاجتها إلى ضمانات أمريكية في مواجهة الطموحات الإيرانية وسياسات التدخل والتخريب الممتدة من أفغانستان إلى لبنان عبر دول الخليج وسورية والعراق.
وفي هذا الاتجاه، برزت المرونة الإيرانية التي بدأت مع انتخاب حسن روحاني رئيساً للجمهورية الإسلامية، وتعمدت من قبل المرشد الأعلى علي خامنئي عندما أعطى روحاني “الضوء الأخضر” لفتح باب الحوار مع الولايات المتحدة، وتحديداً مع رئيسها “باراك أوباما” وفريقه، وأعطى تعليماته إلى الحرس الثوري والجيش للتجاوب مع نصائح الرئيس.
وقد حصل كل ذلك بعدما أدرك النظام الإيراني أنه لا يستطيع الاستمرار إلى ما شاء الله في معركة ضد خصومه بل أعدائه في الدول العربية الإسلامية، والإسلامية غير العربية من حلفاء أمريكا، خصوصاً وأن سورية حليفته الرئيسة، هي في قلب المعركة، وأصبح مصيرها مرتبطاً بـ”لعبة الأمم” التي تتحكم بها مصالح مشتركة للاعبين الكبار؛ الأمر الذي قد يدفع المنطقة إما إلى حرب مذهبية شاملة لن تفيد منها إيران، بل ربما تكون أبرز الخاسرين فيها وهم كثر، وإما إلى تسوية تدفعه (أي النظام الإسلامي الإيراني) إلى التخلي قسراً عن مشروعه الإقليمي بالسيطرة على قلب العالم العربي من خلال محور طهران – بغداد – دمشق – بيروت، بالإضافة إلى تحديد سقف مقبول دولياً لمشروعه النووي.
وكان الشارع الإيراني الذي صوت بنسبة 51% للرئيس حسن روحاني يعلق آمالاً كبيرة على قدرته كسياسي معتدل يستطيع أن ينفتح على دول العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة ودول أوروبا، تمهيداً لإلغاء العقوبات المفروضة على إيران والعمل لعودة الازدهار إلى اقتصادها وتحسين مستوى معيشة الإيرانيين الذين عانوا من تداعيات تدهور سعر صرف الريال الإيراني الذي وصل إلى 42 ألف ريال مقابل الدولار الأمريكي بعدما كان في حدود 12500 ريال.
المشروع العربي:
معظم اللاعبين الإقليميين والدوليين في سورية كانوا يراهنون على “لعبة الوقت”، مع مراقبة شديدة لتطور العمليات العسكرية، وبما أن نظام “الأسد” هو الرهان الأساسي للمشروع الإيراني، فقد استخدمت طهران ولا تزال كل قدراتها السياسية والعسكرية والمالية لتوفير كل مقومات ديمومته، ولكن مع استمرار “حالة أستاتيكو”؛ أي الهدوء في بعض المناطق السورية، وتفوق النظام في مناطق أخرى؛ نتيجة تشرذم المعارضة وضعفها، ولأسباب أخرى سياسية وعسكرية ومخابراتية، برزت قوة “داعش” وأخواتها كتنظيمات إرهابية في سورية والعراق، مستفيدة من فشل رئيس الوزراء السابق “نوري المالكي” الذي كان منفذ المشروع الإيراني ضد المناطق السُّنية، وفي الوقت نفسه نجحت حركة التغيير في مصر بقيادة الجنرال “عبدالفتاح السيسي” ضد الإخوان المسلمين.
وفي خضم كل هذه التطورات المتلاحقة، ومع استمرار مفاوضات النووي بين إيران والدول الست دون التوصل إلى نتائج إيجابية وهي ممتدة حتى منتصف العام 2015م، برز التحرك العربي بتكوين جبهة عربية بقيادة السعودية مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن وتونس، وتضم 10 دول عربية، ومعظم سكان الوطن العربي وأكثر من 70% من قوته الاقتصادية، وذلك لتوحيد الصف العربي وتنشيط جامعة الدول العربية، ولمواجهة كل المشاريع الإقليمية والدولية المطروحة والتي تهدف إلى شرذمة المنطقة وتقسيمها.
لقد بدأ المشروع العربي بخطوة كبيرة على طريق الألف ميل، مسجلاً إنجازاً في المصالحة الخليجية – الخليجية، وكذلك القطرية – المصرية برعاية الملك عبدالله بن عبدالعزيز، تنفيذاً لقرار اتخذته قمة الرياض الخليجية بـ”دعم مصر والإسهام في أمنها واستقرارها”، وتتطلع مصر إلى الاستفادة من أهمية الموقف الخليجي الموحد، لتوفير النجاح لمؤتمر القمة الاقتصادية المرتقب انعقاده في 13 مارس 2015م في مدينة شرم الشيخ على البحر الأحمر تحت عنوان “الاستثمار في مصر: استثمار في المستقبل”، وسيعرض فيه نحو 100 مشروع استثماري بتكلفة تصل إلى 50 مليار دولار.
وهكذا تؤكد التجارب والوقائع مجدداً، بأن العلاقات بين الدول تكون دائماً مرهونة باستخدام “الاقتصاد” من أجل تحقيق أهداف “السياسة”، مهما كان نوعها وتوجهاتها، وما يتطلب ذلك من دعم مصالح تحالفات محددة ورصد أموال تكون أحياناً بلا حدود لتمويل عمليات عسكرية أو صفقات أسلحة متنوعة من شأنها أن تساهم في إحداث تغييرات “جيوبوليتيكية” ينتج عنها تحالفات جديدة تشمل مناطق عدة من العالم، وهذا ما يحصل حالياً في ضوء تداعيات الصراع الإقليمي والدولي، ليس في منطقة الشرق الأوسط بل في العالم بأسره.
حرب النفط:
في إطار المصالح، يلاحظ أن علاقة الولايات المتحدة بدول الخليج العربية تحكمها العلاقات الإستراتيجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وقد جعل مزيج المصالح الاقتصادية والسياسية الأمريكية في المنطقة أحد أهم الأولويات في إستراتيجية الولايات المتحدة، وبما أن الاهتمام الأمريكي يتمحور حول النفط، فإن الأهمية المركزية لدول الخليج في سوق النفط العالمية، هي التي تفسر متانة وديمومة عمق الانغماس الأمريكي في شؤون المنطقة على امتداد السبعين عاماً الماضية.
ومع تطور ثورات “الربيع العربي” وتداعياتها، تواجه دول الخليج تحديات وأخطاراً متعددة المصادر؛ مما يتطلب منها مواقف موحدة باستخدام كل إمكاناتها لمواجهتها وتجنب تأثيراتها على أمنها الداخلي واستقرارها، مع الإشارة إلى أن أحداث الثورة السورية كشفت تغليب صراع المصالح بين الدول الكبرى؛ مما أدى إلى تحويل جزء كبير من الأعباء إلى اللاعبين الإقليميين، ومنهم دول منظومة مجلس التعاون.
وإضافة إلى الأسباب الفنية المتعلقة بكثرة العرض وقلة الطلب في الأسواق العالمية، هناك بالطبع أسباب “جيوبوليتكية” لا تقل أهمية عن العقوبات الاقتصادية التي تدخل عادة في العلاقات السياسية بين الدول، وإذا كانت روسيا التي تنتج نحو 11 مليون برميل نفط يومياً، فقد أعلن باسمها وايغورستيش رئيس شركة “روسنفت” المقرب من الرئيس “فلاديمير بوتن” أن بلاده “لن تخفض إنتاجها حتى لو هبطت الأسعار إلى 60 دولاراً للبرميل”، فإن السعودية وهي تنتج نحو 9 ملايين برميل يومياً، قد أعلنت بلسان وزير نفطها علي النعيمي “أن منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) لن تخفض إنتاجها البالغ نحو 30 مليون برميل يومياً حتى لو بلغ سعر البرميل 20 دولاراً”.
ومع تراجع الأسعار بأكثر من 42% خلال الأشهر الخمسة الماضية، وذلك من 115 – 65 دولاراً للبرميل، وتوقع استمرار انخفاضها إلى نحو 43 دولاراً في النصف الأول من العام 2015م كأسوأ سيناريو متوقع، تزداد الخسائر والأضرار التي تلحق بالدول المنتجة، وخصوصاً إيران الذي تراجع إنتاجها بسبب العقوبات الاقتصادية ضد مصالحها من 4 ملايين برميل إلى أقل من مليونين، وهي تحتاج إلى سعر يزيد على 120 دولاراً للبرميل لتغطية نفقاتها المتزايدة وتوسعها الكبير في الإنفاق الخارجي على تصدير الثورة، ولم يستبعد وزير نفطها “بيغن زنغنه” من أن تلجأ طهران إلى السحب من صندوق ثروتها السيادية الذي لديه نحو 62 مليار دولار.
أما روسيا فهي بدورها تحتاج إلى سعر 100 دولار للبرميل لضبط موازنتها، وأن إيرادات موازنتها لعام 2015م قد تتراجع أكثر من تريليون روبل (21.5 مليار دولار)، ولم يستبعد وزير ماليتها “أنطوان سيلوانوف” اللجوء إلى أسواق المال الأجنبية لسد عجزها المالي، مع العلم أن الاقتصاد الروسي يعاني حالياً من تداعيات تطبيق عقوبات غربية بسبب دورها في أزمة أوكرانيا، تزيد تكلفتها عن 40 مليار دولار سنوياً، وفق اعتراف الوزير “سلوانوف” الذي أشار إلى أن هذه العقوبات لا تشكل الخطر الأكبر على الاقتصاد الروسي، مقارنة بانخفاض سعر النفط الذي سيكبد روسيا خسائر تصل إلى 100 مليار دولار سنوياً.
مضيق هرمز:
يلاحظ أن المناورات العسكرية التي بدأتها القوات الإيرانية في 25 ديسمبر 2014م بدعم من روسيا، تبدو وكأنها “عرض قوة عسكرية” ضد “قوة اقتصادية” تستخدمها “أوبك” بقيادة المملكة العربية السعودية مع دول الخليج، وتحمل في طياتها أهدافاً أهمها رفع أسعار النفط، وهي رسالة تؤكد نفوذها القوى في المنطقة وقدرتها العسكرية على ضرب أهداف براً وبحراً وجواً.
ولكن هل ذلك يعني التهديد بإغلاق “مضيق هرمز” وهو أهم منفذ بحري وله مكانة إستراتيجية في التجارة العالمية ويمر فيه أكثر من 40% من تجارة النفط؟
يقدر عدد ناقلات النفط التي تمر سنوياً في مضيق هرمز بـ2400 ناقلة تنقل ما يعادل 17 مليون برميل يومياً، يعود معظمها لدول مجلس التعاون الخليجي وخصوصاً السعودية والكويت والإمارات وقطر، فضلاً عن العراق وإيران نفسها، ويرى المراقبون أن إغلاق المضيق من شأنه أن يخفض الإنتاج، ولكنه لن يرفع الأسعار لأن الفائض في الأسواق متوافر، خصوصاً وأن الإنتاج خارج منطقة الخليج يصل إلى نحو 75 مليون برميل يومياً، فضلاً عن أسباب اقتصادية وفنية قد تساعد على إيجاد ممرات أخرى ولكن أقل أهمية.
ويبقى السبب الأهم بأن إقفال مضيق هرمز يحمل أخطار حرب في المنطقة سبق أن هددت بها الولايات المتحدة التي تضمن في إستراتيجيتها العسكرية حرية المرور في الممرات الدولية، ولاسيما وأن أساطيلها البحرية موجودة في المنطقة وبحاجة إلى حركة مرور متواصلة، مع التأكيد على أن إيران التي تفاوض الدول الست على مشروعها النووي، هي بغنى في الظروف الراهنة عن اندلاع الحرب في هذه المنطقة.