د. سنان أحمد
د. سنان أحمد
تمتلئ صحفنا ومجلاتنا ومواقع الإنترنت وغيرها من وسائل الإعلام بألوف المقالات و”الريبورتاجات” حول الأحداث الجارية، ومعظمها لا يمتلك الحد الأدنى من المصداقية لعدم معرفة محرريها بمبادئ التاريخ والجغرافية والسياسة ولعبة المصالح المعقدة والتي تعتبر ركائز الكتابة في هذا المجال.
فقد أفاق العالم يوم 10/6/2014م على دوي سقوط الموصل ثاني كبريات المدن العراقية وواحدة من أعرق المدن في المنطقة على يد تنظيم “داعش” من دون سابق إنذار، لتتوالى الأحداث بعدها في المنطقة بشكل دراماتيكي وغامض لم يسبق له مثيل في التاريخ أمام تنظيم محكم له جذور عميقة في المنطقة، ويملك مقاتلين مدربين على مستوى عالٍ ولكافة أنواع الأسلحة والخبرة بشؤون الحرب.
فنحن لسنا أمام مجموعات مبعثرة كما صورتها لنا التقارير الساذجة، تنطلق بتأثير أيديولوجي معين، وإن الإرهاب الذي تمارسه ليس إلا إحدى الوسائل في تكتيكاتها المتبعة نحو أهدافها الغامضة، لقد ساهم في عدم تقدير خطورة هذا التنظيم تلك الدراسات السطحية والتافهة والتي أدلى بدلوه بها كل من هبَّ ودبَّ تحت تأثيرات عاطفية، وإرضاء لذوي الشأن وبدوافع غير مستندة إلى تقييمات علمية وموضوعية، وإذا بالناس في حيرة من أمرهم وأمام صدمة عميقة بدأت تنجلي شيئاً فشيئاً بمعرفة حجم التقصير في مواجهة هذا التنظيم وحجم الفساد خلف هذا التقصير.
إن ظاهرة “داعش” من أكثر الظواهر خطورة وغموضاً في التاريخ الإسلامي، لو أردنا وضعها بهذا الإطار فقط ولا يضاهيها خطورة إلا حركة القرامطة التي انبثقت من الباطنية الإسماعيلية في منتصف القرن الثالث الهجري وحركة الحشاشين الإسماعيلية في نهاية القرن الخامس الهجري والتي دوخت الشرق بعمليات الاغتيال والقتل، وحركة “داعش” تستغل ظاهرة استحضار التاريخ واستنساخه بشكل مشوه، مستغلة جهل الناس بالتاريخ والدين وتعلقهم العاطفي بشعارات برَّاقة كما تفعل باقي الحركات على الطرف الآخر؛ كـ”حزب الله”، و”أنصار الله”، وبسيناريوهات متباينة وكلها تصب في استغلال الدين لأغراض لا علاقة لها بالدين.
ولا يمكن لأي حركة أن تظهر على السطح بالطريقة التي ظهرت بها “داعش” ما لم يكن هناك من العوامل السرية الكامنة تحت الأرض والتي خططت لها عقول كبيرة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ومالياً، مستغلة حالة التشرذم والفساد التي تعيشها البيئة المستهدفة (العراق وسورية في هذا الحيز) لكي تنمو بها مثل هذه التنظيمات، ولا يمكن صب الأمور في خانة الحاضنة الشعبية كما يحلو للبعض أن يضع الأمر في هذا الإطار، فألمانيا في الحرب العالمية الثانية احتلت فرنسا برمتها بأقل من أسبوع و”إسرائيل” احتلت الضفة وسيناء والجولان في يونيو 1967م بأقل من أسبوع ولم تكن هناك حاضنة علنية أو سرية.
في السابق، كان ضعف الدولة العباسية مبرراً لنشوء الحركات الباطنية وعلى الأخص القرامطة كما ذكرنا لنشر أفكارهم الهدامة وهدم الدين باسم الدين والذي كللوه بمهاجمة الكعبة عام 317هـ وتدنيسها وسرقة الحجر الأسود ويدعون بأنهم جاؤوا لمحاربة الوثنية!
إن معظم الذين كتبوا عن هذه الظاهرة لم ينتبهوا إلى عنصر “المؤامرة الكبرى” على المنطقة، وهي مسألة معقدة ومتشابكة تبدأ جذورها بمعرفة من كان يدخل سجن بوكا؟ وكيف يخرج منه؟ وماذا كانوا يتلقون داخل هذا السجن؟ وماذا يمارسون؟! ليصبحوا بعدها قادة ورؤوس “داعش”.. إن حجم المؤامرة وخيوطها تظهر جلية في الغياب المبهم لمعسكرات ومقرات التنظيم بعيداً عن عيون الأقمار الصناعية قبل هجومها على الموصل، وماذا كانت تمارس في المنطقة المعنية التي تحتوي على عشرات الألوف من العساكر والمجندين الذين هربوا عند سماع الإطلاقات الأولى، فكانت المأساة كظهور تنين خرافي في زمن العلم والمعرفة.
إن الجانب الهوليودي في إخراج ظاهرة “داعش” كان ولا يزال حاضراً في أذهان من خططوا لهذه المسرحية الدموية العبثية. منذ أن صعد قائدها على منبر نور الدين بخطوات مسرحية مدروسة بإتقان، منتحلاً اسم الخليفة الراشد الأول، معيداً خطبته التي حفظها بإتقان مع حركات مسرحية نفذها بدقة متناهية، ثم توالت الحركات الهوليودية بطريقة القتل والإعدامات الهمجية على شاشات التلفزيون، وطريقة ذبح الصحفيين وقطع الرؤوس وتعليق الجثث في حين أن الرسول كان قد أمر بعدم التمثيل حتى بجثث الحيوانات، وسيكشف الزمن أن هذا الدعي ليس إلا واجهة باهتة لمن رسم له الدور وجهزه بالمال والرجال والفكر التضليلي الذي تم به خداع ألوف الشباب تحت راية الخلافة والجهاد، وبعدها ليعلن دولة مهلهلة تأخذ من الناس كل شيء تحت مسميات الزكاة والجزية، ولا تعطيهم أي شيء، وأنه لا يمثل في السلم التنظيمي إلا واحدة من الدرجات الواطئة فيه.
لقد بلغ التهافت الفكري عند بعض الكتاب أو ممن يتخيلون بأنهم محللون سياسيون مداه عندما يربط أحدهم هذه الحركة بقيام الدولة الأموية لمجرد انطلاقهما من أرض الشام والآخر يلقي باللائمة على أهل المناطق المنكوبة لعدم مقاومتهم لهذا التنظيم الذي حشدت له أربعون دولة أسلحتها المتقدة لمحاربته ولله في خلقه شؤون!
لقد آن الأوان لأن نكون موضوعيين وعلميين، وفي نفس الوقت مخلصين لمبادئنا وإنسانيتنا عندما نكتب عن مثل هذه الحركات وبواقعية حتى لا نخرج من مأساة لنقع بأخرى كما جرت العادة.
ومن المضحكات المبكيات أن أحد المحللين على الطريقة البعثية ينفي دخول “داعش” لمدينة بيجي أصلاً ملمحاً أن مسألة إرجاعها إلا مجرد كذبة، فقد تعودوا على الأكاذيب التي قادت البلد لمهلكة وراء أخرى.
إن كتبة المقالات والأعمدة والعاملين في كل المجالات الإعلامية يجب أن يكونوا على درجة من الثقافة والمعرفة يستطيعون بها تحليل الظواهر الخطيرة مثل ظاهرة “داعش” وأخواتها حتى لا تنخدع بها الجماهير، وتقديم الأمور كما هي بعد معرفة بواطنها لا كما يشتهي هذا وذاك.
لقد صاحب ظهور الأحداث الجارية تهافتاً إعلامياً لا مثيل له، خصوصاً في القنوات والجرائد والمجلات الموالية للأطراف ذات الشأن، وتبريراً للهزائم التي لم تكن لتحدث لو أن الناس تعرف بواقع ما يجري على الأرض ومدى خطورته ولا تتفاجأ يومياً بخبر يقع عليها كالصاعقة.
لقد أصبحت كتاباتنا قريبة للثرثرة، وهي الكلام الفارغ الذي لا يعني إلا السير نحو التخلف.
هذا ما نعيشه في أيامنا هذه على المستويين الثقافي والسياسي إلا ما رحم ربي، وهي ثرثرة ثقافية – سياسية تدعو للحزن والبكاء قبل الضحك على ميزان “شر البلية ما يضحك”.. وأخيرا لا تسألوا الطغاة كيف طغوا بل، اسألوا العبيد كيف خضعوا.
لقد شملت هذه الثرثرة حتى الإعلام الأجنبي فراح ينشر التقارير من بوادر تكوين الدولة “الداعشية” لمجرد تمكنها من إحصاء السكان ومحلات إقامتهم، وما يتعلق بذلك متناسين أن كل المدن التي تحت سيطرتهم مشلولة شللاً كاملاً من ناحية الخدمات وكل مقومات الحياة الكريمة، لتمتد هذه الثرثرة إلى السيد “أوباما” رئيس أعظم دولة في التاريخ وخريج جامعة “هارفرد” الشهيرة؛ فراح يحذر المجتمع الدولي من خطورة امتلاك التنظيم للأسلحة النووية وشر الثرثرة ما يضحك!