في الإسلام نجد «قيمة» العدل عالية متألقة، تتصدر كل «القيم» الثوابت التي يدعو إليها الدين
في الإسلام نجد «قيمة» العدل عالية متألقة، تتصدر كل «القيم» الثوابت التي يدعو إليها الدين، فهو المقصد الأول للشريعة، وكل السبل التي تكفل تحقيقه هي سبل إسلامية شرعية، حتى لو لم ينص عليها الوحي أو ترد في المأثورات، بل إننا واجدون «العدل» اسماً من أسماء الله الحسنى، وصفة من صفاته سبحانه وتعالى، وكفى بذلك دليلاً على المكان الأرفع للعدل في فكر الإسلام.
والعدل، في العرف الإسلامي، ضد «الجور والظلم»؛ وهو يعني جُماع مزاج الإسلام وخاصية حضارته، أي الوسطية والتوازن، المدرك بالبصيرة، والذي يحقق إنصافاً بإعطاء كل إنسان ما له وأخذ ما عليه منه، ومن هنا كان حديث الرسول “صلى الله عليه وسلم”، الذي عرف به الوسطية بالعدل، والعدل بالوسطية، عندما قال: «الوسطية: العدل، جعلناكم أمة وسطاً» (رواه الترمذي وابن حنبل).
وإذا كان «العدل» هو «الحق»، فإن مجاوزة «الحق» هي الظلم والجور، وإذا وقع هذا الظلم في علاقة الإنسان بعقيدة الإلوهية كان كفراً أو شركاً أو نفاقاً (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {13}) (لقمان).
وإذا وقع هذا التجاوز في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان سمي ظلماً؛ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ) (الشورى:42)، وكذلك تكون تسميته عندما يكون التجاوز للحق واقعاً من الإنسان في حق نفسه وذاته؛ (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) (فاطر:32)، وإذا كان «الظلم» مفسداً لشؤون الدين والدنيا، فإنه «ظلمات يوم القيامة» (رواه البخاري)، كما قال الرسول “صلى الله عليه وسلم”.
فريضة واجبة
والعدل، في شرعة الإسلام، فريضة واجبة، وليس مجرد حق من الحقوق التي باستطاعة صاحبها التنازل عنها إذا هو أراد، أو التفريط فيها دون وزر وتأثيم، إنه فريضة واجبة، فرضها الله سبحانه وتعالى على الكافة دون استثناء، فرضها على رسوله “صلى الله عليه وسلم”، وأمره بها؛ (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {15}) (الشورى).
وهو فريضة واجبة على أولياء الأمور، من الولاة والحكام، تجاه الرعية والمتحاكمين؛ (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً {58}) (النساء)، بل لقد أنبأنا الله سبحانه وتعالى أن هذه «الأمانة التي فرض على الإنسان حملها وأداءها، كانت هي المعيار الذي تميز به الإنسان وامتاز على غيره من المخلوقات؛ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً {72}) (الأحزاب)، ومن المفسرين من قالوا: إنها أمانات الأموال والعدل بين الناس(1)!
وهذا الشمول لفريضة العدل، والعموم لضرورتها، يحدثنا عنه رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، عندما يدعو الآباء إلى العدل بين أبنائهم؛ «اعدلوا بين أبنائكم»(رواه البخاري، ومسلم والنسائي وأبو داود وابن حنبل)، وعندما ينهى الولاة عن غش الرعية؛ «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (رواه الدارمي)؛ وعندما يحدث الولاة عن تكافؤ «العقد» بينهم وبين رعيتهم؛ ويحذرهم من التفريط بما عليهم تجاه الرعية، فيتحدث إلى الرعية عن علاقتهم بالأئمة فيقول: «إن لهم – الأئمة – عليكم حقاً، ولكم عليهم حقاً مثل ذلك، ما إن استرحموا فرحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (رواه ابن حنبل)؛ وعندما يتحدث عن وجوب شمول العدل لكل الميادين؛ عدل الولاة في الرعية؛ وعدل القضاة في الأحكام؛ وعدل الإنسان في أهل بيته؛ الفرد، والأسرة، والمجتمع.
جريمة كبرى
كذلك يستوي، في وجوب العدل، أن يكون تجاه الغير أو حيال النفس؛ وهذا ما يزيد المعنى الذي نلح عليه تأكيداً؛ فلو كان العدل مجرد «حق» لجاز للإنسان أن يتنازل عن نصيبه منه، ولكان ظلمه لنفسه مما لا يدخل في دائرة الإثم والتجريم؛ لكن الإسلام، الذي جعل العدل «فريضة إنسانية واجبة»، قد جعل ظلم الإنسان لنفسه جريمة كبرى وظلماً عظيماً؛ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً {97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {98} فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً {99}) (النساء)، بل إن القرآن الكريم يعلن الرفض لمنطق أولئك الذين ظنوا أن ظلمهم لأنفسهم – دون غيرهم – لا يدخل في «عمل السوء»؛ فيذكر، صراحة، أن مصير هؤلاء الظالمين أنفسهم إلى النار؛ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {28} فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {29}) (النحل).
بل إن وجوب فريضة العدل الإسلامية على الكافة وعمومها وشمولها، يتعدى بها نطاق «الأولياء» فنجدها واجبة العموم، بصرف النظر عن العقائد والشرائع الدينية التي يتدين بها من لهم الحق فيها، الأمر الذي يجعلها فريضة إنسانية وضرورة بشرية، تجب على الإنسان للإنسان، من حيث هو إنسان؛ فهي فريضة واجبة سواء أكان الأمر تجاه المؤمنين أو الكفار؛ تجاه الأصدقاء أو الأعداء؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {8}) (المائدة)، كذلك نجدها واجبة حتى لو صادمت «الميل والهوى»؛ بسبب تناقضها مع المصلحة الذاتية أو مصلحة من يميل إليه الإنسان؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً {135}) (النساء).
الوصايا العشر
ونحن عندما نتأمل الوصايا العشر التي أوصى الله بها الإنسان، في القرآن الكريم، نبصر ميزان العدل – كضرورة وفريضة إنسانية – معياراً للحل والحرمة في هذه الوصايا؛ يقول الله سبحانه وتعالى: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {151} وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {152} وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {153}) (الأنعام).
وإذا كان هذا هو شأن «فريضة العدل» في الإسلام؛ فلقد كان طبيعياً أن نرى موقفه الواضح ضد الظلم متسماً هو الآخر بالشمول؛ فالعدل واجب على الكافة تجاه الكافة؛ ومن ثم كان الظلم حراماً على الجميع إزاء الجميع؛ وإذا كان الله سبحانه هو «العدل» المطلق، فلقد شاء الله سبحانه أن يعلمنا أن فعله لما يريد، وكونه لا يُسأل عما يفعل لا يعني جواز الظلم في حقه، حتى ولو كان قاضياً في ملكه، كمالك مطلق ووحيد، ووجدناه، سبحانه، يذهب إلى تعليمنا كراهة الظلم بأن يخبرنا أنه قد حرمه على نفسه، وعلينا التشبه والتأسي والاقتداء، فيقول، في الحديث القدسي: «إني حرمت على نفسي الظلم وعلى عبادي، ألا فلا تظالموا» (رواه مسلم وابن حنبل)، ويشيع هذا المعنى في القرآن الكريم؛ (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ {31}) (غافر).
بشاعة الظلم
وبعد أن ضرب الله لنا المثل على بشاعة الظلم عندما أخبرنا أنه قد حرمه على نفسه، وأحال وقوع مثقال ذرة من الظلم من قبله سبحانه، نهانا عنه، وحذرنا من اقترافه، فرسول الله “صلى الله عليه وسلم”، يقول: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه..» (رواه البخاري)، وعندما مر الرسول “صلى الله عليه وسلم” مع صحابته بمساكن الذين هلكوا؛ لأنهم اقترفوا الظلم، نبه أصحابه – لمزيد تحذيرهم من الظلم – كيلا يدخلوا مساكن هؤلاء الظالمين البادئين؛ «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا، إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم ما أصابهم» (رواه البخاري ومسلم وابن حنبل)، أما القرآن الكريم، فإنه يعلمنا أن عقاب الظالم على ظلمه يهون بجانبه كل شيء في الأرض؛ (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ {54}) (يونس)، (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ {47}) (الزمر)، وفي الحديث الشريف: «من اقتطع أرضاً ظالماً لقي الله، عز وجل، يوم القيامة وهو عليه غضبان» (رواه مسلم وابن حنبل)، و«من أعان قومه على ظلم فهو كالبعير المتردي ينزع بذنبه» (رواه ابن حنبل)؛ إلى آخر صور التحذير والتخويف من الظلم ومصير الظالمين.
مقاومة الظلمة
على أن الإسلام لا يقف من الظلم عند هذه الحدود؛ حدود التحريم، والتحذير، والتخويف، بل يذهب فيوجب على المسلم التصدي للظلم بالمنع والإزالة – كمنكر – والتصدي للظلمة بالمقاومة، حتى يتطهر مجتمع الإسلام من دنس الظلم والظالمين.
فالجهر بالسوء، وإعلان السلبيات وكشف ما لا يحسن كشفه، بنظر الإسلام منكر يجب أن يبرأ منه لسان المؤمن وتعف عنه أجهزة إعلامه؛ لكن إذا تعلق الأمر بالسوءات والسلبيات والمظالم والجرائم التي يرتكبها الظلمة وأهل الجور، فلا حرمة لهم في هذا المجال؛ ففضحهم واجب، وإثارة الأمة ضد جرائمهم ومخازيهم مطلوبة، بنظر الإسلام؛ (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً {148}) (النساء).
والإسلام دين سلام ومسالمة؛ لكنه يدعو المظلومين إلى العدول عن السلم إذا كانت المواجهة بينهم وبين الظالمين؛ فالظلم حرب معلنة وعدوانية وغير مشروعة يشنها الظالمون ضد الأمة، ومن ثم فلا بد من مواجهتهم بما يردعهم من أساليب المقاومة، ومنها «القتال»؛ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40}) (الحج).
الشعراء الثوار
والقرآن الكريم عندما تحدث عن «الشعراء»، كانت إدانته لذلك الفريق الذي سخَّر شعره لدعم مظالم الجاهلية وفكريتها؛ واستثنى من هذه الإدانة وذلك النقد الشعراء الثوار الذين أسهموا بشعرهم في مجابهة المظالم الجاهلية، بدعمهم الروح القتالية للمستضعفين ضد الطغاة: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ {224} أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ {225} وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ {226} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ {227}) (الشعراء)، فالذين «انتصروا» أي «ثاروا» في وجه الظلم مستثنون من هذه الإدانة التي وجهها القرآن إلى الشعراء.
ولقد أنبأنا رسول الله “صلى الله عليه وسلم” أن الصراع بين «العدل» و«الظلم» في هذه الحياة الدنيا صراع دائم أبداً؛ ومن ثم فلابد من اليقظة لمظاهر الظلم وجرائم الظلمة أنى ظهرت وفي أي مكان نجمت، يقول الرسول “صلى الله عليه وسلم”: «لا يلبث الجور بعدي إلا قليلاً حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره، ثم يأتي الله، تبارك وتعالى، بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره» (رواه ابن حنبل).
وفي مجرى هذا الصراع الدائر والدائم رفع الله الحرج عن المظلومين إن هم هبوا لمقاومة الظالمين، فلا سبيل عليهم في ذلك، بل هم مأجورون، فالذين يثورون «ينتصرون» في وجه الظلم ليس عليهم من سبيل؛ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ {42}) (الشورى).
وجوب الثورة
بل إن موقف الإسلام من هذه القضية؛ قضية «الانتصار»؛ أي الثورة ضد الظلم والظلم يتعدى «الإباحة» و«المشروعية» «إلى التحبيذ»، بل «والإيجاب»، ورسول الله “صلى الله عليه وسلم” عندما يقول: «إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك أنت ظالم، فقد تُودِّع منهم» (رواه ابن حنبل)، فإنه يعلمنا أن التصدي للظلم بالمقاومة هو دليل «الحياة» في الأمة، أما إذا هي عجزت عن ذلك أو أهملته فإنها ستكون عندئذ في عداد الأموات، الذين «تُودِّع منهم»، رغم أنهم يأكلون ويشربون كما يأكل الأحياء ويشربون؛ ولذلك وجدنا تراث الإسلام مزداناً بالمأثورات التي تحض على مقاومة الظلم ومقاتلة الظلمة والتصدي بالثورة لتغيير مجتمعات الجور والاستبداد؛ ووجدنا هذه المأثورات الشريفة تبشر أهل الحق بما أعده الله لهم من رفيع الدرجات لقاء معاناتهم مصاعب هذا الطريق، فـ«من قتل دون ماله مظلوماً فهو شهيد، ومن ظلم من الأرض شبراً طوّقه من سبع أرضين» (رواه البخاري ومسلم والدارمي وابن حنبل)، فشتان ما بين المصيرين الذين أعدهما الله تعالى!
ميزان العدل
لقد نظر الإسلام إلى «العدل» باعتباره «الميزان» الذي أمر الله سبحانه وتعالى الكافة أن يقيموه في الكافة وللكافة؛ الرسول والأمة، والمؤمنين والكافرين، الأصدقاء والأعداء، فـ«العدل» هو «الميزان» الذي أنزله الله سبحانه مع الكتاب لتستقيم شؤون الإنسان؛ (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (الشورى:17)، (وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد:25)، وهو أداة «التوازن» في مختلف ميادين الحياة، فـ«الوسط: العدل: جعلناكم أمة وسطاً» (رواه الترمذي وابن حنبل)، العدل خاصيتها، به حياتها الحقيقية، وفي تخلفه موتها، كما قال “صلى الله عليه وسلم”.
وحدود هذا «العدل» الإسلامي لا يقف بها الإسلام عند «القانون»، وإنما هو شامل للحياة المادية والاجتماعية؛ فكما يجب في «الشرائع» كذلك يجب في «الثروات والأموال»، التي خلقها الله وأودعها – بالفيض – في الطبيعة فالله هو مصدر الأموال، وهو وحده مالك الرقبة فيها، والإنسان – من حيث هو إنسان – مستخلف عن الله في هذه الأموال، يستثمرها بالعمل المشروع، ويجوز منها كملكية منفعة ووظيفة اجتماعية ما يحقق كفايته، وفق العرف ودرجة المجتمع وحظه من الرخاء والغنى؛ فميزان العدل هنا هو العاصم للإنسان من الهبوط إلى درك «الفقر»، الذي يفقد الإنسان مقومات حريته، ويسلب منه مضمون الانتماء لمجتمعه ووطنه، وهو العاصم أيضاً لهذا الإنسان من الاستعلاء إلى درجة «الاستغناء»، الذي يركز ثروات الأمة فتكون «دولة بين الأغنياء»، الأمر الذي يغريهم بالطغيان بواسطة سلطان المال؛ (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى {6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى {7}) (العلق).
إن خالق الثروات والأموال يقول: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ {10}) (الرحمن)، والإنسان – من حيث هو إنسان كجنس وكأمة وليس كفرد أو طبقة – مستخلف ووكيل ونائب عن الله في هذه الثروات والأموال، فإذا كان المال مال الله، فإن جُماع مصادره الأساسية هي لمنفعة مجموع خلق الله تعالى، وكما يروي ابن عباس، وأبو هريرة، وعائشة، رضي الله عنهم، عن رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، فـ«المسلمون شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار، وثمنه حرام»، و«ثلاث لا يمنعن: الماء، والكلأ، والنار»؛ وعندما سئل الرسول “صلى الله عليه وسلم” عن الشيء الذي لا يحل منعه قال: «الماء، والملح، والنار» (روى هذه الأحاديث ابن حنبل وابن ماجة).
ذلك هو معيار «العدل»، كضرورة إنسانية واجبة، بكتاب الله وسُنة الرسول “صلى الله عليه وسلم”، ولقد نعم المسلمون بهذا العدل عندما وضعت فلسفته في التطبيق على عهد النبي ودولة الخلافة الراشدة، فكانت تلك الفترة – في تاريخنا – بمثابة السابقة الدستورية التي تبلورت فيها فلسفة عدل الإسلام، وذلك يوم أن حكم عمر بن الخطاب فقال: «والذي نفسي بيده ما من أحد إلا له في هذا المال حق، أعطيه أو منعه، وما أحد أحق به من أحد، وما أنا فيه إلا كأحدهم، فالرجل وبلاؤه، والرجل وقدمه، والرجل وغناؤه، والرجل وحاجته، هو ما لهم يأخذونه ليس هو لعمر ولا لآل عمر» (طبقات ابن سعد، ج3 ق1 ص 215، 216، 219)، ويوم حكم علي بن أبي طالب فقال: «إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما منع به غني، إن الغني في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة، وإن المقل غريب في بلدته، أنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد»(2).
العدل الاجتماعي
إن «العدل الاجتماعي» «واجب وفريضة»، وليس مجرد «حق» من «الحقوق»، وتخلف هذا العدل يهدم أركان «التعاقد» القائم بين الحاكمين وبين المحكومين، ويلغي شرعية «السلام» المفترض بين الطبقات الاجتماعية، لأن هذا السلام رهن بـ«تكافل» هذه الطبقات في تحقيق «الضرورات الواجبة» لسائر أعضاء الجسد الاجتماعي – الأمة – ومن هنا كانت المأثورات الإسلامية الشريفة: «إذا جاع مؤمن فلا مال لأحد»، و«من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه، وأيما أهل عرصة(3) أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى» (رواه الإمام أحمد)، فمشروعية الحيازة، وحرمة «ملكية المنفعة» في الأموال قائمة كحق من حقوق ذمة الله تعالى، وتخلف قيام فريضة «العدل الاجتماعي» يرفع حماية «ذمة الله» عن هذه الحيازات، ومن هنا كان عجب أبي ذر الغفاري وتعجبه عندما قال: «عجبت لرجل لا يجد في بيته قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه»، فالمنطلق والإطار هو «وجوب» العدل؛ السياسي، والقانوني والاجتماعي كفريضة «إلهية – إنسانية»، لا النظر إليه كمجرد «حق من الحقوق».
الهوامش
(1) القرطبي، «الجامع لأحكام القرآن»، ج 14، ص 254، طبعة دار الكتب المصرية.
(2) «نهج البلاغة»، ص 408، 373، 366، طبقة دار الشعب، القاهرة، و«شرح البلاغة»، ابن أبي الحديد، ج 7 ص 37، طبعة القاهرة، عام 1967م.
(3) العرصة: الساحة، والفضاء، وتتحلقه وتجاوره المساكن.