سالم الفلاحات
سالم الفلاحات
تعلمت من الحياة العملية ضرورة احترام مخالفيك؛ لأنه لا قداسة لرأيك ولا عصمة لفعالك مهما بالغت في تقدير وعيك..
وكلما احترمت الآخر على خلافك معه كنت كبيراً أو حتى كنت إنساناً.
الحقيقة كل الحقيقة والصواب كل الصواب لا يملكه إلا المعصومون، وقد ماتوا جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وآخرهم توفي منذ أربعة عشر قرناً أو تزيد.
علمت بخروج المهندس عبدالهادي الحوامدة من الاعتقال، رئيس بلدية سابق ومدير منطقة في بلدية جرش والحائز على عشرات الشهادات التقديرية، بعد بحث وسؤال وصلنا مع عدد من الإخوة بيت عائلة المهندس عبدالهادي الحوامدة، وإذا به البيت الأصيل القديم العفيف الذي لم يُخالطه كسب منهوب أو مسروق من جيوب الغافلين فهو من ثلاثة أدوار لكل العائلة الإخوة والوالد، وربما للأحفاد أيضاً.
استقبلتنا طفلته الصغيرة (جود) والتي غرس فيها الود والترحيب بالضيف، وكأنما تعرفنا منذ سنوات.. والتي علمت فيما بعد أنها تخبئ أغراض والدها وحقيبته لئلا يغيب في السجن مرة أخرى!
أما أبو عبدالهادي، شقيق عبدالهادي، الذي يكبره؛ فهو الذي ينزل الدرج الطويل ويصعده وقد يذهب إلى جرش – المدينة – ليدل الزائر على البيت ويستقبله بكل حفاوة.
نعم كان يعض السيجارة حتى يكاد يمتص كل ما فيها من ضباب لعله يريد الضغط عليها وخنقها ظاناً أنه ينفس عن آلامه التي تختلج في جوانحه.
أما الشخص النحيل الشاحب المبتسم (بصعوبة) فهو م. عبدالهادي.
وكالعادة فنحن نستنطق الحجر في بلادنا؛ لينفجر مرة واحدة ألماً وكمداً كأنما هو مرجل يغلي خنق بخاره لفترة طويلة حتى قال: وكاد أن ينفجر شعرت أنني لست في الأردن، وأن معظم من حولي أو من وُكّل بي ليسوا من هذا العالم، ولا من هذا الشعب الطيب، تعرفت على أسماء وكنى بعضهم ليتني لم أعرفهم.
يقول: أتفهم أن الفساد منتشر ومتغلغل في كل وادٍ، والتفريط بحقوق الوطن والمواطن بلغ مدى كبيراً، لكن أن يصل الكره لنا وشيطنتنا إلى هذه الدرجة والمعاملة السيئة لأردنيين إلى هذا المستوى وليس في سجلهم جريمة واحدة بل ولا حتى جنحة فذاك أمر رهيب مخيف.
لا أدري، لماذا أخذوني في رحلات مؤلمة على جميع السجون دون سبب على مدى ستة أشهر وكل رحلة من سجن لآخر ترى فيها العذاب والإيذاء والإهانة ألواناً في سيارات لا تصلح لا والله لنقل الدواب حتى لو كانت في طريقها للمسلخ.
لست الوحيد الذي يتعرض لهذه المعاملة بل آخرون.
يا الله احفظ بلدنا من نقمتك على هؤلاء والذين هم من عالم آخر.
سلمني تقريراً وهو يقول هذه أمانة في أعناقكم وفي أعناق الشرفاء الغيورين على الأردن، ليس من أجلي فقط، وإنما لغيري الذين لا يجدون من يسأل عنهم وهم في هذا الحمى العربي الأصيل.
قال: والله ما كان يخفف آلامي إلا التسبيح الذي اهتديت إليه، فكان يخرجني من حالات أكاد أصل فيها للاختناق ضيقاً وألماً فأقول: حسبي الله ونعم الوكيل، وتذكرت مرات ومرات يونس عليه السلام في بطن الحوت.
أفقدوني وظيفتي ومصدر دخلي في البلدية بتزوير إرادتي على لسان محامٍ لم أوكله بشيء من ذلك بل حَذّرته، كنت أثق به ولكن للأسف شارك في تنفيذ جريمة بحق أطفالي وعائلتي؛ فزوَّر إرادتي بتقديم استقالة من عملي في البلدية.
حدثنا عن شهود الزور الجاهزين للتوقيع على أي افتراء بحق السجين يطلب منهم مقابل لُعاعةٍ من دنيا يحصلون عليها وهم سجناء.
نِعم البيت.. ربما لم يترك شيئاً في بيته – أو بيت أخيه – الملتاع إلا قدمه لنا، ولم يخلُ من مجاملة وملاطفة ليخفف عن السامعين – الضُيوف – آلامهم، بل لم نترك البيت إلا بعد جهد جهيد، فهو يريد أن يستبقينا طويلاً كأنما خرج إلى الحياة من جديد يريد إكرامنا.
أما أنا فخفت على بلدي حقاً وربما – لأول مرة – من هؤلاء الذين وصفهم ولا أظنه محتاجاً للمبالغة، وهو العنيد الشديد الصلب المراس الذي تختلف معه، ولكنه صَرّح بلسانه زوال هذه الخلافات، كما وقر في نفسي أن هذا الخلاف موهوم مصطنع زائف، فالجوامع أعظم بكثير من نقاط الخلاف لو أبصرنا، ثم غادرنا وكل يحدِّث نفسه حديث الألم وربما يقول بلسانه: اللهم إني مغلوب فانتصر.
لقد تيقنت من م. عبدالهادي بأن بلدنا بحاجة لإنقاذ فعلي، بل أن بعض الأردنيين بحاجة لإنقاذ أنفسهم من أنفسهم، فقد تعرضوا للتضليل وللتشويه والمسخ، مع يقيني أنّ دوام الحال من المحال.