د.عامر البو سلامة
د.عامر البو سلامة
1- التربية أولاً لو كانوا يعقلون:
وهنا لا أريد أن أتحدث عن التربية ومفهومها ومعناها، ولا أريد البحث عن جذور اشتقاقها، وهل هي مذكورة في كتب التراث أم لا، كما أني – في هذه العجالة – لن أبحث تفاصيل مباحثها، ولا أركان تكوينها، ولا أسس مسائلها، ولا تفاصيل قواعدها، ولا ركائز بنائها، ولا تقاسيمها ولا أنواعها، فهذه الأشياء على أهميتها، لها مباحث خاصة، ومؤلفات كثيرة، تبحث في مظانها من كتب العلماء والمفكرين، مثل كتاب الدكتور النحلاوي، وللأستاذ محمد قطب كتاب رائد في هذا، وكتب كثيرة متناثرة هنا وهناك، بحثت هذه القضية بحثاً تخصصياً.
أما هنا نريد أن نشير إلى أهمية هذا الجانب، لدى الحركات الإسلامية، والجماعات العاملة للإسلام؛ حتى نكون على الطريق الصحيح، الذي من خلاله تبنى هياكل الأمم والجماعات.
ألا إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
التربية بكل تفاصيلها، هي صمام الأمان لكل فرد وجماعة ومجتمع وتجمع وتكتل، فبها يتكون كل ما ذكر، على قيم صحيحة، ومفردات سليمة، ومسار مستقيم، وبدونها تكون الهلكة، ويحل الضياع، وتنتشر الأمراض الفكرية، وتكثر الأوبئة الخلقية، وتستشري المفاسد الحركية.
التربية، ذلك البناء الشامخ، الذي يصنع الفرد المسلم، والبيت المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، والدولة المسلمة، والأمة المسلمة، بواسطة الوسائل المعبرة، والمناهج المدروسة، والمربي الصالح.
التربية، هي منطلق وجود الربانيين، الذين يكون عليهم المعول، في حمل أمانة الدعوة بحق، والقيام بما يلزم لتحقيق الأهداف الكبيرة المرسومة، وفعل الأمانة، بكل مستلزماتها ولوازمها.
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً {72}) (الأحزاب).
التربية، تكوين على قيم “الله غايتنا” ليكون المرء مخلصاً، لا يبغي دنيا يصيبها ولا امرأة ينكحها، إنما يفعل كل ما يفعل ابتغاء وجه الله، والبحث عن رضوانه.
وفي الصحيحين: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”.
وبهذا تكون جماعة العمل للإسلام، خالية من غرض النفس، وشهوة عشق الذات، وتضخم النفس، فكم من امرئ قصم ظهره بسبب حبه لنفسه، وعشقه لذاته، وهذا الشخص وجوده بهذه الأوصاف داخل صف أي جماعة، سيؤثر عليها تأثيراً كبيراً، ومثل هؤلاء كارثة على أنفسهم، ومصائب على غيرهم. وجماع الشهوات ثلاث، بها أو ببعضها هلك قوم، وأفسدوا على من حولهم؛ شهوة البطن والمال والزينة، وما يتعلق بهذه الأشياء، وشهوة الفرج، خارج أطر الحلال، التي تحكي قصة السقوط في حمأة تلبية داعي النفس، حالة انحطاطها، وشهوة النفس الخفية، التي تقوم على الرياء، وحب الرئاسة، والتنافس للجاه، وعشق التصدر، والدوران في فلك الذات.
فهذه الثلاث، هي جماع السقوط، ومجمع الفتن.
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً {28}) (الكهف).
فالمصابرة مع هذا الصنف، من الذين يدعون ربهم، ويتعلقون بذكره، ويتلذذون بعبادته، ويذوقون طعم الإيمان بطاعته، يكون الخير.
أما الذين يريدون زينة الحياة الدنيا، ولا هم لهم سواها، وكانوا غافلين عن ذكر الله تعالى، فهؤلاء على خطر عظيم، ووجودهم داخل الصف دون انتباه وعناية ورعاية وتربية وعلاج، سيكون خطره عظيماً.
فكم من فتنة وقعت بسبب غياب هذه التربية، وكم من كارثة حلت لأن الشهوة الفلانية، تسلطت على واحد استسلم لها، وكم من دائرة مصاب، جلبت الويل؛ لأن هذا أو ذاك لم يأخذ حظه من التربية، خصوصاً إذا تزبب قبل أن يتحصرم.
غياب التربية الصحيحة، أمر خطير، ولا يجوز أن يستهان به، من هنا كان لزاماً أن تكون التربية أولاً، لأن كل ما بعدها، يبنى عليها، أو هي المدخل التي يوصلك بأمان إلى كل شعب العمل الأخرى، فالعملية مقدمة ونتيجة.
في بعض الأحيان، يكون هناك أحد العاملين للإسلام، ويكون نشيطاً، وتكون له أيادٍ بيضاء، في كثير من الأمور، ويكون موهوباً في كثير من الجوانب، ويؤدي في الموضوع الفلاني، ما لا يؤديه سواه، ويبرع في القصية الفلانية، حتى يبز أقرانه، وفي الأمر العلاني لما تولاه كان أعجوبة، ويتقدم في الجماعة ويتقدم، دون الالتفات إلى جوانب النقص في التربية، التي تحوط به، لأنه لم يأخذ نصيبه الكافي في هذا الجانب، ما إن مدَّ له إبليس الإنس يده، حتى استجاب له، ووضع يده بيده، ووقع الطامة الكبرى، “فالتربية قبل وبعد وأثناء كل الأشياء”، وهي الأمر الذي يجب أن يستمر من المهد إلى اللحد، ولا يجوز أن يتوقف ساعة، وينتظم كل فرد من أفراد الجماعة العاملة للإسلام، من أكبر رأس فيها، إلى الذي انتظم في صفوفها حديثاً.
التربية هي التي تضمن لك وحدة الصف، واجتماع الكلمة، وتحقق معنى الإيثار، لإيجاد أجواء الأخوة الصادقة، من أجل تماسك الجماعة، وصوغها حتى تحمل مهام الدعوة وتكاليفها، التي أخذت على عاتقها العمل من أجل مشروعها التالد، بربانية تتسم بالبذل والصلاح وبذل الخير للآخرين، وجلب النفع لهم.
التربية، قواعد الأمان، من الانحراف والزيغ، والتساقط على الطريق، فأبناء العمل الإسلامي، لا يكونون مؤهلين لمهمة المشروع المبارك، إلاً إذا ترفعوا عن سفاسف الدنيا، وبهرجها وإغرائها، والتعلق بها، وإلا فعند أول منعطف من منعطفات الإغراء التي يسيل لها اللعاب، يبيع دينه بدنياه، ويسقط في دائرة البحث عن الشهوات.
“تعس عبد الدرهم والدينار، تعس بعد القطيفة”.
التربية، عملية متكاملة الجوانب، بها تكون عقيدة المرء سليمة، خالية من البدعة والضلال، والتصورات المنحرفة، والأفكار الفاسدة، بالتربية يكون المرء الصالح، والإنسان المستقيم، حتى يكون مثقف الفكر، سليم التصورات، صحيح العقيدة، نافعاً لغيره، يؤدي العبادات كما شرعها الله، ويكون قوي الجسد، حسن السيرة، وبالتربية تتكون منظومة الأخلاق التي تكون عماد الجماعة المسلمة، وبها يصل إلى درجة الصائم القائم، وبممارستها تتشكل القدوات، التي تسحر الناس، فتكسب ودهم، حتى يفدوك بأرواحهم، وتزرع الثقة في نفوسهم بهذا الداعي، وتلك الجماعة، وكما قالوا قديماً: “حال رجل في ألف رجل، خير من قول ألف رجل في رجل”، وهنا تكون أزمة الثقة في الفرد والجماعة، إن ظهر عكس الصدق، أو بدا غير الصلاح، أو شعر المقابل بلف أو دوران، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وعلى كره من أساء إليها.
والداعية يرمقه الناس بمنظار دقيق، وهو تحت مجهرهم بصورة مستمرة، والناس تحب الصادقين في أقوالهم وأفعالهم، فحذار – يا من تصدرت للعمل الإسلامي – أن تؤتى الحركة من طرفك، بسلوك مشين، أو خلق رذيل، أو قول غير لائق، بل كن كشامة بين الناس.
وقد يسأل سائل: هل مطلوب من أبناء العمل الإسلامي أن يكونوا معصومين، ولا يقعون في ذنب، ولا يخطئون؟ كلا، لو كان ذلك كذلك، لما ركزنا على جانب التربية، بل لأن “كل ابن آدم خطاء”، ولأن المرء عرضة للزلل، ومظنة للإثم، كان لا بد من التربية “وخير الخطائين التوابون”.
لذا تكون عملية التربية عملية مستمرة، لا تعرف التوقف، حتى يلقى المرء ربه.