د. سنان أحمد
تتحفنا إحدى القنوات المشهورة بين الفينة والأخرى في استضافة بعض المحللين البعثيين في برامجها السياسية المثيرة للجدل! وخصوصاً الذين ثكلهم “صدام” بعد مغامراته العنترية لأكثر من ثلاثة عقود، وانتهت بصعوده للمشنقة ودخول الولايات المتحدة للمنطقة بشكل سافر.
وفي خضم الأحداث المعقدة الجارية في المناطق الساخنة في وسط العراق, أشار أحد هؤلاء المحللين ومن خلال أحد البرامج الشهيرة؛ إلى أن مشاركة الإيرانيين لما يسمى بـ”قوات الحشد الشعبي”، وحضور قاسم سليماني في أرض المعركة وخصوصاً في تكريت لا يعني إلا الانتقام من “صدام حسين” وهو في قبره، كما فعل الجنرال الفرنسي “غورو” قبل أكثر من تسعين عاماً عندما دخل دمشق وذهب لقبر صلاح الدين الأيوبي وقال قولته الشهيرة: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”!
إن مماثلة “صدام حسين” بـ”صلاح الدين” هو من المضحكات المبكيات التي تعشعش في العقلية العربية القومية ذات الجذور العلمانية، رغم إنكارهم للتاريخ الإسلامي والذي يوظفونه بعد تشويهه في خدمة أهدافهم المبهمة.
فـ”صدام” هو الابن البار لميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث العربي في أواسط القرن الماضي، وهو من الإفرازات الماسونية شأنه شأن معظم الأحزاب القومية العلمانية في العالم الإسلامي, وهذه حقيقة لا نقاش حولها، فالمطلع على أدبيات عفلق يلاحظ أنه يتحاشى عن عمد استخدام كل المصطلحات الإسلامية بما فيها اسم الجلالة، وهو القائل: “إذا كان محمد كل العرب فليكن كل العرب محمداً”، وهو بذلك ينزل من قيمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرفع من قيمة كل العرب مؤمنهم وكافرهم ليجعلهم بمرتبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن البديهيات التاريخية، فإن هذا الحزب جاء للسلطة في العراق وسورية بتأثيرات صراع القوى في المنطقة وأهمها التأثير الأمريكي, وأحد القائمين بالانقلاب الأول على عبدالكريم قاسم عام 1963م، والمدعو علي صالح السعدي قال قوله: “لقد جئنا على دبابة أمريكية”.
لقد سمى عفلق “صداماً” بأنه “القائد الضرورة”، و”هبة السماء للأرض”، فإذا كان هؤلاء القوميون فرحين بالنصر على إيران في تلك الحرب العبثية التي لم تختلف فيها عقلية صدام عن عقلية الخميني العنصرية المندفعة بحقد أعمى على العرب والمسلمين، والتي ذهب ضحيتها مئات الألوف من الشعبين، ولم تخدم إلا التوجهات الأمريكية آنذاك, وكان من أسبابها اتفاقية الجزائر لعام 1975م وحلم إيران الإمبراطوري الذي لن يتوقف إلا بنهايتها؛ لأن عصر الإمبراطوريات قد ولى للأبد.
وشخصية “صدام” القومية التي ملأ بها الدنيا ضجيجاً صارت مهزلة المهازل في غزوه للكويت عام 1990م, حيث تم نهب وتدمير كل شيء على الطريقة “الداعشية” في هذا البلد الصغير، وإحراق آبار النفط وقتل كل من وقف ضدهم.
وعندما دخل العراق في مرحلة الحصار الاقتصادي في التسعينيات من القرن الماضي تنامى الحس القومي المزيف لـ”صدام” في بنائه لمئات القصور والشعب يتضور جوعاً, فقد كنا نتقاضى خمسة دولارات شهرياً وهو يزين أبواب قصوره بالذهب والفضة.
هذه اللمحة السريعة أين منها سيرة صلاح الدين الذي اشتهر بعدله وزهده وتسامحه أكثر مما اشتهر بحنكته السياسية والعسكرية ومطاردته للصليبين والباطنية في معظم أرجاء العالم الإسلامي والانتصار عليهم, ناهيك أن صلاح الدين رغم انتمائه للقومية الكردية فإنه كرس حياته لخدمة الإسلام والمسلمين، فاسترد القدس عام 583م، وقبلها قضى على الدولة الفاطمية عام 567ه.
إن الحركات البهلوانية للساسة العرب ومن ضمنهم “صدام” وأهمها المتاجرة بالمسألة الفلسطينية لا تشابه إنجازات صلاح الدين، فعندما أطلق 39 صاروخاً على “إسرائيل” أثناء حرب الكويت, فإنه دفع بعدها 11 ملياراً من الدولارات لدولة الصهاينة ثمناً لتهشيم زجاج بعض النوافذ.
إن هذه المقاربة لا تعني مطلقاً التغاضي عن الأخطاء (الشيعية – الحكومية) التي رافقت حكم العراق منذ عام 2003م حتى الآن, وذلك الحقد الأعمى الذي يحرك إيران بدوافع انتقامية وعقد تاريخية تحت غطاء التشيع لآل البيت, والذي تسبب بنمو التيارات المتطرفة واستغلال البعثيين للأمر؛ فصاروا العمود الفقري لحركة “داعش” الظلامية التي دمرت البلاد وأهلكت العباد, وقد قالها “صدام” ذات مرة: إنه سيجعل البلد رماداً في حالة تسليمه لأعدائه، وهذه حقيقة نعلمها نحن أهل البلد من خلال التعاون الوثيق بين البعثيين وقوى الظلام لأكثر من عشر سنوات.
لقد أصر أحد هؤلاء المحللين على أن ما حدث في يونيو عام 2014م كان ثورة عارمة، ولم يقاطعه السيد المذيع مطلقاً علماً أن الأمور بخواتيمها كما يقال.
وإذا كانت الحيلة المركبة التي نفذتها “داعش” قد انطلت على الجميع على أنها ثورة ضد الظلم, وكان وراء ذلك مخطط رهيب لسنا بشأن تحليله الآن, فكيف تنطلي بعدها تلك الجرائم التي نفذتها “داعش” والتي تخجل منها الإنسانية جمعاء قبل أن يخجل منها العرب والمسلمون، والتي وضعت الإسلام في واحد من أصعب مراحله التاريخية وفي تطابق غريب مع الأهداف الماسونية.
لقد صوروا سابقاً احتلال الكويت وما جرى على أرضها من جرائم على أنه صراع ضد الإمبريالية, وبما أننا لا ننكر تداخل المصالح في عالم السياسة, ولكن في غمرة صراعنا مع الأحلام الفارسية الإمبراطورية يجب ألا نعطي الأعذار لمن أساؤوا لهذه الأمة لكونهم ينتمون إلى أهل السُّنة على ما يبدو كـ”صدام” وزبانيته، و”أبو بكر البغدادي” والحثالة التي جمعها باسم الإسلام.
إن لعبة السياسة معقدة، فأصابع المخابرات الأمريكية والغربية في حزب البعث كما هي في “داعش”، وكما هي في حركة “السيسي” ومن يقف خلفه، وكذلك في تحريك وحماية “بشار الأسد”، و”حزب الله”، و”أنصار الله”, ولنكن على درجة عالية من الوعي وألا يهبط تفكيرنا السياسي إلى الحضيض، ونعتبر تلك المنظمة التي استعارت أفكاراً مشوهة سمتها إسلامية لشيء للإسلام ونسميهم ثواراً, وتنطلي علينا حيل “صدام”، و”حسن نصر الله”، و”الحوثي”، وغيرهم بالعداء لـ”إسرائيل” وأمريكا.
لقد صار استحضار التاريخ الإسلامي واستنساخه استنساخاً مشوهاً “موضة ” للاسترزاق السياسي في كل الأنظمة العربية والمنظمات والأحزاب السياسية.
فهذا القائد هو خالد بن الوليد، وذلك هو طارق بن زياد والقائمة لا تنتهي والأحزاب والكتائب كلها بأسماء إسلامية رنانة, حتى أصبحنا لا نرى في حياتنا ولا نسمع إلا أصوات الماضي, ومن يخطط في الغرب يفكر كيف سيكون العالم بعد مائتي عام ويهزأ من هؤلاء الشراذم الذين لم نحصد منهم إلا خراب البلاد والعباد.
وأخيراً لا تسيؤوا لسمعة صلاح الدين والذي قال بشأنه أحد المستشرقين: إن الغرب لا يعرف من شخصيات الإسلام إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وصلاح الدين الأيوبي, فلم يكن عميلاً لأحد ولا جباراً متسلطاً على رقاب المسلمين ولا سارقاً لأموالهم ولا يسير بتعاليم أحفاد عفلق وغيره ممن جلبوا الفتن والخراب في البلاد.