تسود الأوساط الإسلامية أخيراً دعوات الثورة على النصوص الدينية، تحت مسميات عديدة، منها «تجديد الخطاب الديني»، لكن أوهام الثوار الجدد على النصوص الدينية بدعوى الحرية المطلقة تعني الفوضى المطلقة في كل قواميس الأمم والشعوب، ودوافع هؤلاء إلى ذلك غالباً ما تكون نفسية، ليس لها علاقة بالعلم والتجديد والاجتهاد.
وحول هذه القضية الشائكة والخطيرة، كان هذا اللقاء لـ«المجتمع» مع أ.د. عمر تدرارني، الباحث ومسؤول مركز الدراسات والأبحاث في الفكر والمجتمع بالمغرب.
* هل يحجر الإسلام إعمال العقل في قراءة النصوص الدينية، كما يقول البعض بذلك؟
– إن إعمال العقل وتحريره وتوظيفه غاية القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة، وكان ذلك أول ما صنعه النبي “صلى الله عليه وسلم” في قومه يوم بعثه الله للناس جميعاً، يومها نزلت عليه كلمة المفتاح «اقرأ»، وكانت تلك الثورة الحقيقية على التقليد والجمود. واستمر هذا التحرر زماناً، وانطلق في الآفاق قروناً، رغم ما اعتراه من سقم وضعف أحياناً، لكنه يظل أول قيمة غرسها هذا الدين في نفوس أتباعه، ولا يحق يوماً لأحد أن يمتنَّ علينا بأنه محرر العقول والثائر على الجمود.
موضع الخلل
* أين الخلل إذن في الموجة الجديدة القديمة للثورة على النصوص؟
– إن ادعاء الاجتهاد والثورة على النصوص الشرعية باطل والتجديد بهتان وافتراء؛ لأن ما يتحدثون عنه سبق إليه المستشرقون منذ زمان، إذن هو اجترار وتقليد لا غير، ومن تتبع ما يدعو إليه أولئك «المجددون» لوجدهم يتبعون خطوات المستشرقين شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، فأنى له من اجتهاد؟
وأهم العيوب التي تعتري أصحاب هذا التصور وأولها الغرور والادعاء؛ إذ إن أعظم مصيبة في الفرد أن يشعر بالتعالي على غيره، وادعاء العلم لنفسه ونفيه عمن سواه، وذلك ما نجده في أولئك الذين زعموا الثورة على النصوص الشرعية، حيث يرون أن السلف من أهل العلم لا اعتبار لهم، وعلمهم ناقص ومنهجهم سقيم، ولا يقول بذلك إلا قليل العلم.
وثانيها ضعف الزاد وقلة البضاعة، ذلك أنهم لا يصبرون على طلب العلم فيستعجلون حصول المراد، فيبدأ الشخص في الخلط والزيغ والرجم والتجهيل والتنقيص من الناس سلفاً وخلفاً.
وثالثها العجلة؛ حيث إن من العيوب في البحث والقراءة العجلة في الحكم والاستنباط، وذلك ما نجده في منهج القراءات الجديدة للنصوص الشرعية، التي جنت على كثير من الأعلام والنصوص، وخرجت بنتائج فسادها أعظم من صلاحها.
* لا يُقبل من ينتقد بعض المفاهيم السياسية السائدة، في حين أن هناك جرأة زائدة على العلوم الشرعية، ما تعليقكم؟
– بكل أسف، أصبحت العلوم الشرعية مستباحة لكل من يملك شهادة جامعية من معهد أو جامعة، ولسنا أوصياء على الاجتهاد ولا حراس معبد، لكننا نقدر الاجتهاد من أهله، وفي الوقت نفسه نحترم ضوابطه ولا نقول بالتسيب والتمييع.. والكثير من القراءات الحديثة للنصوص القرآنية والحديث تهدف إلى نقض القرآن والسُّنة؛ بحجة حرية الفكر والاجتهاد، والثورة على النصوص سيراً على نهج الغرب في قوله بالحداثة تجعل العقل إلهاً من دون الله تعالى، وفي زعمها كل ما يأتي به العقل فهو الحق المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأصحاب هذه الدعوات يقدمون أنفسهم على أنهم يملكون المنهج العلمي الرصين الذي تشبع من المناهج الحديثة، ويدَّعون الموضوعية في طروحاتهم ومناقشاتهم للنصوص، لكن ما أن يبدأ الواحد منهم بتجاوز تلك المقدمات إلا ويجانب المنهج العلمي، ويبدأ اللمز والقدح والتعالي، وتظهر الشهوات والأهواء.
وغالباً ما ينطلق أولئك من روايات سقيمة أو ضعيفة أو موضوعة لبلوغ الغايات المسطرة لها سلفاً؛ إما لتبرير أمر أو لتأسيس حكم، كما أن بعضهم يسعى لتضعيف راوٍ أو النصوص حوله؛ للقول بعدم أهليته للطعن في رواياته، وبعضهم يحاول إخراج النصوص الشرعية من سياقها وظروفها، ويؤسس بعد ذلك لما يريد، مدعياً أنها قراءة جديدة واستنباط فريد.
خطورة المنهج
* إذن، ما خطورة منهجهم في ذلك؟
– لنقل أولاً: إن الإسقاط منهجهم، نعم هو منهج من لا منهج له لتبرير «ثورته» على النص، إذ كيف يمكن في المنهج العلمي المساواة بين نصين مختلفين كلياً مصدراً وزماناً ومكاناً وحالاً؟ كيف يمكن للقياس أن يوصل صاحبة إلى نتيجة علمية رصينة عند وجود الفارق بين البيئتين الإسلامية والغربية؟ وكيف يمكن أن نعيش ثورة على النص الشرعي كما عاشها الغرب مع النص الديني الذي لوثته أيادي البشر؟ ثم كيف يمكن للمنهج التاريخي أو غيره من المناهج البشرية أن نتعامل بها مع نصوص الوحي؟فإذا كان الهدف من الإسقاطات المجانية والقياسات الفاسدة تطويع النصوص لبلوغ المرام فلا أسهل من ذلك، لكن المنهج العلمي الذي يدعيه هؤلاء في مقدمة كلامهم لم يعد له وجود بهذا الفعل.
اتباع خُطى الغرب
* البعض منهم يعتبر النص الشرعي وثيقة تاريخية، كيف تردون على ذلك؟
– لا أظن أن السير على خطى الغرب في تعامله مع النص الديني منهج علمي سليم؛ لأنه وبكل بساطة يتعامل معه كوثيقة تاريخية يجوز فيها وعليها ما يجوز في بقية النصوص البشرية من نقد وهدم ورد.. ومن هنا نتساءل: متى استوى علم الخالق مع المخلوق؟
ويقول أحد هؤلاء ويدعى «محمد أركون»: «عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن» (الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص 213)، والكلام ذاته لا يخفيه «نصر حامد أبو زيد» عندما يقول: «والقول: إن كل نص رسالة يؤكد أن القرآن والحديث النبوي نصوصاً يمكن أن تطبق عليها مناهج تحليل النصوص» (مفهوم النص ص 26).
وبذلك التعامل الفج مع النصوص الشرعية لا يجعل للكمال الإلهي ولا العصمة النبوية مقاماً، فيقول «فرج فودة» مثلاً: «إن تفسير رسول الله “صلى الله عليه وسلم” للقرآن قول بشر، ومعنى قول بشر أنه غير ملزم، أي يؤخذ منه ويترك، فلا يعقل أن يكون قول بشر له صفة الإلزام» (إعادة النظر ص 304).
وهذا الكلام ليس بالجديد، بل قاله وأكثر منه أسلافهم من المستشرقين، فلنتأمل قول المستشرق اليهودي المجري «كولد سيهر»: «إن إعجاز القرآن ليس إلا في تغلبه على الشعر وسجع الكهان وليس معجزاً في ذاته» (مذاهب التفسير الإسلامي ص 125).
دعوات خفية
* وهل من دوافع خفية لهذه الدعوات؟
– هي رد فعل، ولها دوافع نفسية، فلا تكاد تجد واحداً منهم إلا وكانت بداية قصته مع النصوص الشرعية والثورة عليها حادثة مع أحدهم في الجامعة أو في الإعلام أو مناظرة.. كما أن الكثير من الكتابات المدعية للثورة على النصوص الشرعية تعود دائماً إلى الوقائع التاريخية والتجارب البشرية عبر تاريخ الأمة التي تحاول من خلالها تأسيس وتبرير ما تريد، هل من العدل أن تحاكم تجربة بشرية ماضية لتبرر لنفسك الثورة على النص؟ وهل يعرف الحق بالرجال أم يعرف العكس؟
* إذن، هل يمكن اعتبار الثورة على النص اجترار كلام المستشرقين؟
– نعم، ذلك ما يصنعه «الثوار الجدد» في زعمهم للاجتهاد والحداثة، فتلك القضايا التي يخوضون فيها سبقهم إليها المستشرقون في فترات متفرقة من التاريخ، بل بعضهم يدافع عن الاستشراق وينسبه إلى العلم والفكر الحر والتجديد في دين الإسلام، ويحقر من بني جلدته من يحقر، ويعطون لأنفسهم نقد علماء السلف والخلف، ولا يسمحون أن ينتقدوا من غيرهم.
وأخيراً نقول: إن الفرق شاسع بين ما تريده النصوص الشرعية وما تخبر به، الفرق شاسع بين الانضباط للمناهج العلمية والتسيب في الاستنباط، الفرق شاسع بين من بيَّت موقفاً قبل العمل البحثي، وبين من رام الحقيقة غير مستعجل في الحكم.
ولا نقول بالتسليم أو التوقف أو التطويع أو التأويل المعوج، بل نقول بالاجتهاد الواعي البعيد عن الإسقاط أو الأحكام المسبقة والتجديد المنزَّه عن الأهواء والشهوات، ولا عصمة لأحد من البشر مهما بلغ علمه، ولا تقديس لشخص مهما كانت درجته إلا من اصطفاه ربه عز وجل.