طيلة ما لا يقل عن 2000 سنة كان نظام الحكم في تركيا متمركزاً حول قيادة واحدة هي الرئيس أو الزعيم أو السلطان، ومن حوله باقي مؤسسات الحكم التي لا يسمح بأن تكون لها زعامة تنافس زعامة رأس النظام، وهو ما سمح بظهور زعامات تاريخية من مثيل محمد الفاتح وسليمان القانوني وعبد الحميد الثاني وكان آخرها مصطفى كمال أتاتورك.
ثم كانت نقطة التحول في النظام السياسي التركي عندما قرر أتاتورك، مؤسس الدولة التركية الحديثة، أن يعتمد نسخة مطورة من النظام السياسي الفرنسي القديم، والذي كان لقرون طويلة قائما على ملِكٍ يتقاسم زعامة البلاد مع مراكز حكم عديدة منها الكنيسة ومجالس اللوردات وغيرها. وهكذا تم تقسيم السلطات في الجمهورية التركية ما بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء والبرلمان والمحكمة العليا وقيادة الجيش وغيرها من السلطات التي كان لكل منها رأس يتعامل بندية مع باقي الرؤوس.
وبسبب هذا النظام السياسي عجزت الأمة التركية طيلة العقود الماضية عن إنتاج زعيم يقود الدولة إلى مرحلة الازدهار، فكان ازدهار الدولة يُحبَط بسبب تصادم رئيس الوزراء الناجح برئيس الجمهورية، أو تصادم الرئيس بالقيادة العسكرية، أو تصادم الأحزاب السياسية بالمحكمة العليا. فضلا عن أن عدم تصادم هذه المراكز المتعددة للنظام كان يؤدي في المعظم إلى دخول الدولة في حالة ركود بسبب غياب الزعامة التي كانت دائما أحد أهم أسباب ازدهار الدولة التركية عبر التاريخ.
والخطوة الأولى التي خطتها الدولة التركية في العقد الأخير نحو صناعة زعامة سياسية، تمثلت في شخص رجب طيب أردوغان، كانت ناتجة بالأساس عن ثلاثة استثناءات داخلية يندر أن تتكرر، أولها هو مستوى اليأس والسخط الشعبيين في مطلع الألفية الثالثة ولهفة كل مراكز السلطة نحو الخروج من حالة التدهور التي وصلت إليها البلاد، وثانيها هو الشخصية الاستثنائية لرجب طيب أردوغان وقوة الفريق العامل معه، وثالثها هو تواطؤ – إن صح التعبير – رئيس الجمهورية السابق “عبد الله غول” مع رئيس الوزراء السابق، أردوغان، وسماحه له بالاستحواذ على المشهد السياسي بالكامل دون التصادم معه أو مضايقته.
ومع انتهاء هذه الحالة الاستثنائية بصعود أردوغان لرئاسة الجمهورية وصعود داوود أوغلو لرئاسة الوزراء، أوسك الإثنان أن يكونا ضحية لهذا النظام السياسي الذي لا يتماشى مع طبائع الأتراك، فتصدرت الأخبار طيلة الأشهر الماضية عناوين من قبيل: “أردوغان يسطر تحركات داوود أوغلو” و”داوود أوغلو يتجاوز أردوغان” و”أردوغان يتجاوز صلاحياته”، حتى كاد يتأكد لدى المتابعين أن صراعا بين رأسي السلطة التنفيذية سينتهي قريبا إما بانسحاب أردوغان من المشهد السياسي أو بإقصاء داوود أوغلو واستبداله برئيس وزراء ضعيف.
وفي ما يبدو أنه محاولة لمعالجة هذا “الخلل” وجعل النظام السياسي للجمهورية أكثر ملاءمة لطبائع الأمة التركية، أعلن حزب العدالة والتنمية عن عزمه على المضي نحو تغيير الدستور واستبدال النظام السياسي الحالي بنظام رئاسي قائم على ثلاثة مبادئ هي؛ توازن النظام، ووجود رأس واحد للسلطة التنفيذية، وكذلك الفصل بين السلطات. وهذا حسب ما أعلنه رئيس حزب العدالة والتنمية “أحمد داوود أوغلو” في حديثه الأولي عن البرنامج الذي سيخوض به الحزب الانتخابات البرلمانية، والذي يفترض أنه سيشمل تعريفات واضحة بالنظام السياسي الرئاسي الذي يسعى الحزب إلى إرسائه.
ورغم أن داوود أوغلو ومثله أردوغان وكثيرون من قيادات حزب العدالة والتنمية وأنصاره قد أكدوا مرارا على أن النظام الجديد لن يعطي صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية وأنه سيراعي النظم والمبادئ الديمقراطية المتعارف عليها دوليا وسيكون شبيها للأنظمة المعتمدة في معظم الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية؛ نظمت المعارضة التركية طيلة الأشهر الماضية دعاية معارضة لتغيير النظام السياسي رابطة مساعي الحزب الحاكم لتغيير النظام السياسي برغبة أردوغان في إقامة “سلطنته” واحتكار كل السلط والاستفراد بها.
وبربطهم لمساعي الحزب الحاكم إلى تطبيق نظام رئاسي بـ “الطموحات الشخصية لأردوغان”، يقع المعارضون والمنتقدون في خطأ تجاهل حقيقة أن المطالبة بنظام رئاسي ليست وليدة اللحظة، وأن شخصيات سياسية هامة في التاريخ الحديث لتركيا، مثل الرئيس الثامن “تورغوت أوزال” ليبرالي التوجه ومثل الرئيس التاسع “سليمان ديميرال”، كانوا يدعون ويصرون على ضرورة اعتماد نظام رئاسي حتى تنجح تركيا في العبور إلى مرحلة الازدهار.
وإن كان معظم ما تقدمه المعارضة التركية من تفسيرات لموقفها الرافض للنظام الرئاسي يمكن أن يصنف ضمن باب “المناكفة السياسية”، فإن السبب المنطقي لرفضها لهذا النظام هو أن “أردوغان” الذي استطاع أن يتحول، بجهوده الشخصية وجهود حزبه، إلى زعيم سياسي في ظل نظام سياسي فصل خصيصا لمنع بروز الزعامات السياسية وفي ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة؛ سيكون في حال اعتماد النظام الرئاسي أمام طريق مفتوح ليكون زعيم ومؤسس تركيا الجديدة.
وتركيا الجديدة هي أحد شعارات حزب العدالة والتنمية الذي يعمل على تطبيقه وإظهار معالمه في السنوات الأربع القادمة. وكل ما سيحتاجه الحزب لتحقيق هذا هو الحصول على أغلبية الثلثين – 400 مقعد – في الانتخابات البرلمانية القادمة، ثم إقرار الدستور والنظام السياسي الجديدين الذين سيجعلان من أردوغان رئيسا فعليا – لا شكليا – للجمهورية التركية، وسيحصران دور داوود أوغلو في إدارة الحكومة. بينما سيكون أمام الكتلة النيابية للحزب خلال السنوات الأربع القادمة فرصة تاريخية لتمرير ما يتطلبه مشروع الحزب من تشريعات وقرارات.