د . حلمي محمد القاعود
يتعاظم الجهل المستنير أو التنويري مع مطلع كل صباح انقلابي . فجْر الرابع عشر من أغسطس 2013 بدأ الانقلاب يحرق المصريين المعتصمين في رابعة العدوية بعد أن قتلهم بالرصاص الحي وقصفهم بالأباتشي، ونثر عليهم البودرة الحارقة فأشعل الخيام بمن فيها، واحترق المسجد المجاور، وتفحمت مئات الجثث، وبعدها قامت الجرافات بإلقائهم في سيارات الزبالة وبدورها ذهبت لدفنهم في الصحراء !
كان المستنيرون الجهلة من أبواق الانقلاب وخدام البيادة يكذبون على الناس ويسوّغون المحرقة ، ويقولون للناس إن المعتصمين في رابعة وغيرها كانوا يملكون السلاح ويخصبون اليورانيوم تحت المنصة ! ويعلم المنافقون وسادتهم أن المعتصمين الشهداء لوكانوا يملكون مائة بندقية آلية فقط ما استطاع الجندرمة ولا العسكر أن يقتربوا من الاعتصام ، الجبن سيد الأخلاق عندهم ، فقد هربوا من مواجهة القتال يومئذ بين الهلالية والدابودية في أسوان ، لأن الفريقين كان لديهما سلاح يقتتلان به ، والقوم لا يستطيعون خوض المعارك التي فيها أدني مقاومة .إنهم يقاتلون الذين لا يحملون سلاحا !
فلسفة الحرق الانقلابية امتدت إلى الكتب! أعادوا سياسة التتار الهمجية ، واتخذوا من عقيدة ” إلياسا ” التترية منهجا ووسيلة . الحرق والقتل والإعدام هو جوهر الشريعة التترية التي اجتاحت الشرق حتى وصلت إلى بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية ، الدولة العظمي في العالم آنئذ ، فذبحوا الناس مثلما يذبحون الدجاج وغصت المدينة بالدم، حتى الكتب لم تسلم فقد ألقوا بها في النهر وكانت تراثا علميا زاخرا نادرا . بعد ثمانية قرون أعادت إلينا ، مدرسة فضل بشارع الملك فيصل في محافظة الجيزة المصرية شريعة “إلياسا ” التترية!
وكما كان الانقلابيون يذبحون الناس في رابعة ، ويغني شعب البيادة “تسلم الأيادي ” على هدير الدماء وصوت العظام المحترقة ، رفع وكيل الوزارة ومدير الإدارة التعليمية ومدير المدرسة والموجهون أعلام مصر الانقلابية ، وراحوا يهتفون ويغنون: مصر يا أغلى اسم في الوجود ، وبلادي بلادي لك حبي وفؤادي ، بينما كتب الشيخ عبد الحليم محمود ، ومكانة المرأة في الإسلام ، والتربية الإسلامية ، وكتاب الشيخ المفصول من الأزهر على عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم ” وغيرها يتصاعد منها أزير النار وهو يطوي صفحاتها ويحولها إلى رماد!
الحظيرة الثقافية التي كانت تلطم وتصرخ وتضع التراب على رأسها كلما ظهر رأي أو فكرة غير حظائرية ، أي غير شيوعية أو يسارية أو إلحادية ، سكتت وبلعت لسانها الملوث بالعار والدونية والعنصرية ، وراح مرتزقتها يقدمون البلاغات الكيدية ضد مايسمونه الخلايا النائمة من الإخوان المسلمين ، ويحرضون على أشرف الناس وأنبلهم في الآبرتايد الفاجر الذي صنعه الانقلاب ، ويمنحون صكوك الوطنية وفقا لعنصريتهم البغيضة .
الجهل المستنير يمارس همجيته اليومية وهو يحرق كتبا لم يطالع منها كتابا ، بل لم يقرأ عنوانا واحدا من عناوينها ، ولكنه قدم عرضا تلفزيونيا وهو يمارس الإحراق والغناء والرقص في مدرسة يفترض أنها تربي وتعلم وتمنح المعرفة ، ولكن الجهل الأعمي الذي يتزيّا بزيّ العلم جمع كل كتاب فيه كلمة إسلام ، وسكب عليها الوقود وراح يحرقها في فناء المدرسة ، ليتقرب إلى أتابك عسكر الانقلاب الذي يقتل المصريين في الميادين والشوارع ، ويطالب بثورة دينية تواجه المقدسات التي تجعل المسلمين يحاربون العالم !
لم يميز الجهل الهمجي المستنير بين الكتب التي تقدم الإسلام تقديما علميا ، والكتب التي تحارب الإسلام ، وتكذب على المسلمين . لقد أحرقوا كتاب على عبد الرازق المسمّى ” الإسلام وأصول الحكم ” ، وهو كتاب طالما تاجر به الشيوعيون واليساريون وأحذية الاستبداد ، وعدّوه دستورا لهم في حربهم الرخيصة ضد الإسلام والمسلمين ، وطبعوه بأموال المسلمين عشرات الطبعات . في سلاسل شعبية رخيصة ، وفي طبعات خاصة ، ونشروه في أعداد خاصة بالصحف والمجلات التي يملكها الشعب المسلم ويهيمنون عليها بحكم الخدامة في بلاط الاستبداد والانقلاب ، وجاء الجهل الهمجي المستنير أو التنويري لينسف الدستور العلماني المقدس ويحرقه ضمن المحروقات المظلومة !
دولة العدو النازي اليهودي أحرزت منذ قيامها الظالم ثلاثة عشر جائزة نوبل في البحث العلمي ، وأنتم يا حثالة البشر تحرقون الكتب وتغنون : بلادي بلادي ؟
هل هذا هو التعليم وتلك هي التربية ؟ وهذا هو التنوير ، وتلك هي المعرفة ؟ أفّ لكم ولما تعبدون من دون الله . إنكم القوم الفاسقون الذين وصفهم القرآن الكريم ” فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ” (الزخرف :54) .
المفارقة الطريفة أن وزير التعليم الانقلابي أمر بعد ارتفاع أصوات انقلابية تستنكر الجريمة الهمجية وتغطي عليها ، بالتحقيق في الموضوع ، ولكني أرى أن معاليه كان ينبغي أن يحاكم أمام الشعب في محاكمة علنية ، لو كان لدينا دستور وقانون يتم تطبيقهما تطبيقا جادا . فالوزير هو الذي صادق على إلغاء تدريس البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي محرر القدس ، وقاهر الصليبيين الهمج ، كما صادق على إلغاء تدريس عقبة بن نافع البطل المسلم الذي حارب الدولة الرومانية في شمال إفريقية وأمّن المسلمين ، وألقي بالغزاة وراء البحر من حيث أتوا . ولكن الوزير معذور ، ولا يملك من أمره شيئا . لقد جاء في نظام انقلابي يحارب الإسلام والمسلمين ، ويتقرب إلى أعداء الله وشياطين الإنس ليبقى على عرش مصر بالدبابة والرصاص الحي !
في يوم ما من عام 1965 قام النظام الانقلابي وبتوجيه البكباشي الأرعن بإحراق كتب سيد قطب وشقيقه وآخرين ، حتى المقالات الأدبية التي كتبوها ولا تتناول الإسلام مباشرة انتزعوها من الكتب المدرسية والمكتبات الجامعية .وكان كتاب ” في ظلال القرآن ” في مقدمة الكتب التي صادروها ، ويشاء الله أن يذهب البكباشي الأرعن ، ويبقى ظلال القرآن زادا وغذاء ونورا تستضيء به الأمه من الفلبين حتى موريتانيا .
الذي لا يفقهه الجهل المستنير في همجيته التترية أن الأفكار لا تموت بالحرق ، ولا بالمصادرة ، وأن الإسلام لا يُقضى عليه بمثل هذه الحفلات الرخيصة في بعض المدارس ، وعلى أيدي أحذية الاستبداد في كل زمان ومكان .
إن من أحرقوا البشر لا يحافظون على الكتب ، لأن شريعة الجهل الهمجي المستنيرهي التي تحركهم وتشكل تفكيرهم وتقودهم إلى حيث يضحك عليهم العالم !
الله مولانا . اللهم فرج كرب المظلومين . اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم !